الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

وأما أهل الذمة وهم أصحاب الجزية ، ففي وجوب الحكم بينهم إذا استعدوا إلينا ثلاثة أقاويل : [ ص: 251 ] أحدها : لا يلزم ، والحاكم مخير بينهم في الحكم ، وهم مخيرون في التزام حكمه كأهل العهد : لعموم قول الله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم [ المائدة : 42 ] ، وقال تعالى : فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم [ المائدة : 49 ] ولم يقل : فإن تولوا فاحكم بينهم . وسواء كان هذا في حقوق الله أو في حقوق الآدميين ، فعلى هذا إن استعدوا الحاكم كان مخيرا بين أن يعدي المستعدي وبين أن لا يعديه ، وإذا أعداه كان المستعدي عليه مخيرا بين الحضور والامتناع ، إلا أن يشترط عليهم في عقد الذمة أن يجري عليهم أحكامنا ، فيلزم الحاكم أن يعديهم ويحكم بينهم ، ويلزمهم الحضور إليه والتزام حكمه ، فإن تراضوا بالمحاكمة إليه توجه لزوم الحكم إليهم دونه ، فيكون مخيرا في الحكم بينهم ، فإن حكم وجب عليهم التزام حكمه

. والقول الثاني : أنه لا يلزم الحاكم أن يحكم بينهم ويعدي المستعدي منهم ويخير المستعدي عليه على الحضور ، ويلزمه الحكم جبرا ، سواء كان في حقوق الله تعالى أو في حقوق الآدميين : لقول الله تعالى : يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] .

وقال الشافعي : والصغار : أن يجري عليهم أحكام الإسلام . وإن كان عند غير الشافعي أن الصغار هو الإذعان ببذل الجزية ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، ولو لم تلزمهم أحكامه لامتنعوا عليه ، ولأن دار الإسلام توجب حفظ الحقوق وتمنع من التظالم . فعلى هذا : إن كان ما ارتكبوه من الحدود محظورا عندنا وعندهم كالزنا ، أقمنا الحد عليهم ، وإن كان محظورا عندنا مباحا عندهم كشرب الخمر ، لم نحدهم لإقرارنا لهم على استباحته .

والقول الثالث : أن يلزمه أن يحكم بينهم في حقوق الآدميين ، ولا يلزمه أن يحكم بينهم في حقوق الله تعالى : لأن حقوق الله في كفرهم أعظم وقد أقروا عليه ، وحقوق الآدميين محفوظة لهم وعليهم ، كما يلزمنا حفظ أموالهم . فإن كان التحاكم بين مسلم وذمي لزم الحكم بينهم قولا واحدا ، سواء كان المسلم مستعديا أو مستعدى عليه : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الإسلام يعلو ولا يعلى وإن كان التحاكم بين ذميين من ملتين كيهودي ونصراني ، فقد اختلف أصحابنا على وجهين : [ ص: 252 ] أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : يلزم الحكم بينهما قولا واحدا : لاختلاف المعتقدين كما لو كانت بين مسلم وذمي .

والوجه الثاني : - يشبه قول أبي إسحاق المروزي - أن يكون على الأقاويل الثلاثة : لأن الكفر كله ملة واحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية