الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولا يحد في التعريض : لأن الله تعالى أباح التعريض فيما حرم عقده فقال : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله [ ص: 262 ] وقال تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء فجعل التعريض مخالفا للتصريح ، فلا يحد إلا بقذف صريح " .

قال الماوردي : وقد مضت هذه المسألة في كتاب " اللعان " ، والتعريض كنايات القذف فلا يكون قذفا إلا بالإرادة ، وبه قال أبو حنيفة .

وقال مالك وأحمد وإسحاق : المعاريض قذف في الغضب دون الرضا كقوله : أنا ما زنيت ، أو يا حلال ابن الحلال ، إلى ما أشبه ذلك . وقد قدمنا من الدلائل ما كفى ، وإذا سقط الحد فيها نظر إلى مجردها ، فإن تجردت عن أسباب الأذى فلا تعزير فيها ، وإن اقترنت بالأذى والسب عزر فيها ، فأما ما كان ظاهره الفحش والسب كقوله : يا فاسق ، أو يا فاجر ، فهو أبلغ من التصريح : لأنه سب في الرضا والغضب ، فيعزر به في الأحوال إلا أن يريد به القذف فيحد . فأما إذا قال : يا عاهر . فقد ذكرنا فيه وجهين :

أحدهما : يكون قذفا صريحا : لقوله صلى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر .

والوجه الثاني : يكون كناية ، إن أراد به القذف حد ، وإن لم يرده عزر . فإن أراد بهذه المعاريض والكنايات القذف حد لها ، وإن أنكر إرادة القذف أحلف لها .

وقال أبو حنيفة : لا يحد لها ولا يحلف عليها ولا تسمع الدعوى فيها : احتجاجا بأمرين :

أحدهما : أن الكناية تقوم مقام الصريح ، والحد إنما يجب بالقذف ، ولا يجب بما قام مقام القذف .

والثاني : أنه إذا لم يكن لفظ الكناية قذفا صار بالنية قاذفا ، ونية القذف لا توجب الحد ، ودليلنا شيئان :

أحدهما : أن حد القذف من حقوق الآدميين عندنا ، ومن حقوق الله تعالى عنده ، والعتق والطلاق يجمعان حقوق الله وحقوق الآدميين ، ثم كان الكناية فيهما مع النية كالصريح : لأن الشهادة فيها غير معتبرة بخلاف النكاح ، فوجب أن يكون القذف في اختصاصه بأحد الحقين ملحقا بما جمع الحقين .

والثاني : أن كل لفظ احتمل معنيين مختلفي الحكم فقصده لأحدهما موجب لحمله عليه ، كقوله تعالى : يوسف أعرض عن هذا [ يوسف : 129 ] إن قصد به القرآن حرم في الجناية ، ولم يبطل به الصلاة ، وإن لم يقصد به القرآن لم يحرم في الجناية ، وبطلت به الصلاة . فأما الجواب : أنه مثل القذف فمن وجهين : [ ص: 263 ] أحدهما : أن مثل الشيء ما أوجب مثل حكمه .

والثاني : أنه جار مجراه ، وليس بمثل له .

وأما الجواب عن النية : فلم نجعله قاذفا بها كما لا نجعله مطلقا ، وإنما جعلناه قاذفا باللفظ مع النية كما نجعله مطلقا باللفظ مع النية .

التالي السابق


الخدمات العلمية