الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو قال لعربي : يا نبطي . فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان . أحلفته ما أراد أن ينسبه إلى النبط ، ونهيته أن يعود ، وأدبته على الأذى . فإن لم يحلف حلف المقذوف : لقد أراد نفيه ، وحد له ، فإن عفا فلا حد له . وإن قال : عنيت بالقذف الأب الجاهلي . حلف وعزر على الأذى " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، لأن قوله للعربي : يا نبطي ، يحتمل أن يريد نفيه من نسب العرب فيكون قذفا ، ويحتمل أن يريد أنه نبطي الدار ، أو اللسان فلا يكون قذفا . فخرج من صريح القذف إلى كنايته ، فوجب أن يسأل عن مراده ، فإن قال : لم أرد به القذف بل أردت به نبطي الدار واللسان . كان القول قوله مع يمينه ، ولا حد عليه . ثم ينظر في مخرج كلامه ، فإن لم يرد به الدم والنسب فلا يعزر عليه ، وإن أراد به دمه ونسبه عزر للأذى ، فإن نكل عن اليمين حلف المقذوف لقد أراد به نفي نسبي ، وصار قاذفا على ما سنذكره ، وإن قال : أردت به نفي نسبه من العرب وإضافته إلى نسب النبط ، صار قاذفا لإحدى أمهاته ، فيسأل عمن أراد قذفها منهن ، فإنه لا يخلو حالهن من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يريد قذف أم أب من آبائه في الجاهلية ، فيكون قاذفا لكافرة فلا يجب عليه الحد ، لكن يعزر .

والقسم الثاني : أن يريد أم أب من آبائه في الإسلام ، فيكون قاذفا لأم الأب الذي أراده فيجب في قذفها الحد : لأنها مسلمة ، ويكون ذلك للأم إن كانت باقية هي المستحقة لحده ، فإن ماتت فولدها إن كان باقيا ، فإن مات فلوارثه ، فإن كان منهم ورث الحد معهم ، وإن لم يكن منهم لوجود من هو أقرب كان الأقرب أحق بالحد : لأنه أحق بالميراث . فإن عفا الأقرب عنه ففي استحقاق هذا الأبعد له وجهان مخرجان من اختلاف أقاويله في ميراث هذا الحد ، هل يجري مجرى ميراث الأموال أو لا ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه لا حق له فيه ، إذا قيل إنه يورث ميراث الأموال .

[ ص: 264 ] والوجه الثاني : يستحقه بعد عفو الأقرب ، إذا قيل : إنه يختص بالعصبات لنفي العار عنهم .

والقسم الثالث : أن يريد أمه التي ولدته فيكون قاذفا لها ، فإن كانت باقية كان الحد مستحقا لها ، فإن عفت عنه فلا حق لولدها وجها واحدا ، بخلاف ما قدمناه من عفو الأقرب في أحد الوجهين .

والفرق بينهما : أن الأم في استحقاقه أصل فلم يجز أن ينتقل إلى وارثها مع سقوطه بعفوها ، وليس كذلك الأقرب : لأنه فرع يجري عفوه مجرى عدمه ، فجاز أن ينتقل إلى غيره ، وإن كان أبعد منه ، فأما إن كانت الأم ميتة فهو يستحق الحد ميراثا عنها ، فإن عفا عنه وكان لها وارث غيره في درجته فله استيفاء الحد ولا يسقط بالعفو ، وإن كان لها من لا يرث مع الابن كالإخوة ، ففي استحقاقهم للحد بعد عفو الابن على ما قدمناه من الوجهين .

التالي السابق


الخدمات العلمية