الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

وأما القسم الثاني : وهو الذمي ، فيلزم الإمام في حقه الأحكام الثلاثة كالمسلم ، وإن اختلفا في تفصيلها :

أحدها : أن يذب عن نفسه وماله من كل متعد عليه ، سواء كان في الطاعة أو خارجا عنها ، كما يذب عن المسلمين : لأنهم قد صاروا بالذمة تبعا للمسلمين .

والثاني : استيفاء الحقوق لهم إن كانت على المسلمين ، وإن كانت على أهل ذمتهم فضربان :

أحدهما : أن تكون عن عدوان كالغصوب ، فيستوفيها من بعضهم لبعض : لأن دار الإسلام تمنع من التغالب .

والضرب الثاني : أن تكون عن معاملات ، فإن لم يتحاكموا إلى الإمام أو حاكمه لم يعترض لبعضهم على بعض ، وإن تحاكموا إليه أو إلى حاكمه كفهم عن التظالم ، وفي وجوب حكمه عليهم قولان مضيا .

والثالث : استيفاء الحقوق منهم ، وهو على ثلاثة أضرب :

أحدها : أن تكون من حقوق الآدميين المحضة .

والثاني : أن تكون من حقوق الله تعالى المحضة .

[ ص: 227 ] والثالث : أن تكون من الحقوق المشتركة .

فأما الضرب الأول وهو أن تكون من حقوق الآدميين المحضة ، فلا يخلو مستحقها من أن يكون مسلما ، أو ذميا ، أو معاهدا . فإن كان مسلما ، استوفيت حقوقه منهم ، سواء كانت في بدن كالقصاص وحد القذف ، أو في مال كالديون والغصوب . وإن كان مستحقها ذميا منهم ، نظر ، فإن كانت عن غير مراضاة كالقصاص في الجناية ، والغصوب في الأموال ، لزم استيفاؤها منهم : لأن دار الإسلام تمنع من التعدي والتغالب .

وإن كانت عن مراضاة كديون المعاملات ، فإن لم يتحاكموا فيه إلينا تركوا ، وإن تحاكموا إلينا ففي وجوب استيفائها منهم ولهم قولان على ما مضى .

وإن كان مستحقها معاهدا فإن كانت في بدن القصاص وجب استيفاؤها منهم : لأن حفظ نفوس أهل العهد واجب علينا ، وإن كانت في مال نظر ، فإن كان لأموالهم أمان علينا وجب استيفاؤها لهم ، وإن لم يجب لأموالهم أمان لم يجب استيفاؤها لهم ، واسترجعها الإمام ممن أخذها من أهل الذمة لبيت المال : لأن ما دخل دار الإسلام من الغنائم مستحق للمسلمين دون أهل الذمة .

والضرب الثاني : وهو أن يكون من حقوق الله تعالى المحضة ، فهي حقان : قتل بردة ، وحد في زنا .

فأما الردة ، فمن ارتد منهم إلى ما لا يقر عليهم من الأديان استتيب ، فإن تاب وإلا قتل كالمسلم ، ولا يلزم أن يبلغ مأمنه : لأن إبلاغ المأمن يلزم بانتقاض الذمة وليس هذا منه نقضا لذمته .

وأما الزنا ، فإن كان بمسلمة حد إن كان محصنا بالرجم ، وإن كان بكرا بالجلد ، وكان نقضا لذمته : لأنه من شروط ذمته ، فيبلغ مأمنه ، ثم يكون حربا . وإن زنا بذمية ، ففي وجوب حدهما قولان من نفوذ أحكامنا عليهم ، ولا يكون ذلك نقضا لذمتهم ، لكن لا يقرون على ارتكاب الزنا في دار الإسلام : لأنها تمنع من ارتكاب الفواحش فيستتابون منه ، فإن تابوا وإلا نبذ إليهم عهدهم ، ثم كانوا بعد بلوغ مأمنهم حربا .

فأما إن ناكحوا ذوات محارمهم ، فإن كانوا لا يعتقدون إباحته في دينهم كاليهود ، لم يقروا عليه ، وصار منهم كالزنا . وإن اعتقدوا إباحته كالمجوس ، أقروا عليه .

فأما شرب الخمور فيمنعون من المجاهرة بها ، ولا يمنعون من شربها لاستباحتهم لها في دينهم ، فلا حد عليهم .

فإن قيل : فهلا حددتموهم وإن استباحوها ، كما تحدون المسلم في شرب النبيذ وإن كان على رأي أبي حنيفة .

[ ص: 328 ] قيل : الفرق بينهما أن الذمي مقر على ما خالفنا فيه من دينه ، فلم ينفذ حكم الإمام عليه . والمسلم مأخوذ بحقوق الدين ، نفذ حكم الإمام عليه .

وأما الضرب الثالث : فهو أن يكون من الحقوق المشتركة بين حق الله تعالى وحقوق الآدميين ، فهو السرقة ، ولا تخلو سرقته أن تكون من مسلم أو من ذمي أو من معاهد ، فإن سرق من مسلم غرم وقطع كالمسلم . وإن سرق من ذمي أغرم : لأنه عن تغالب تمنع دار الإسلام منه ، وفي قطعه قولان من نفوذ أحكامنا عليهم . وإن كان معاهدا ، فإن كان لماله أمان أغرم للمعاهد ، وقطع في سرقته ، وإن لم يكن لماله أمان أغرم لبيت المال ولم يقطع فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية