الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

وأما القسم الثالث : وهو المستأمن المعاهد ، فالمعاهدون في هذه الأحكام مخالفون للمسلمين وأهل الذمة .

فأما الحكم الأول في الذب عنهم ، فيجب على الإمام أن يمنع عنهم من كان في طاعته وتحت قدرته من المسلمين وأهل الذمة : لأن الأمان يقتضيه ، فلا يلزمه أن يمنع عنهم من لم يكن في طاعته وتحت قدرته من أهل الحرب : لأن أمانهم يوجب الكف عنهم ولا يوجب نصرتهم . وأما إذا تعدى بعضهم على بعض ، لم يجب نصرتهم ولم يقروا على التعدي : لأن دار الإسلام توجب التناصف وتمنع من التغالب والتظالم . وقيل لهم : إن تناصفتم وإلا نبذنا إليكم عهدكم ، ثم صرتم بعد بلوغ مأمنكم حربا .

وأما الحكم الثاني : وهو استيفاء الحقوق لهم ، فإن كانت مع غير المسلمين وأهل الذمة لم يلزم استيفاؤها لهم : سواء كانت في نفس أو مال ، كما لا يلزم نصرتهم منهم . وإن كانت مع المسلمين وأهل الذمة نظر فيها ، فإن كانت متقدمة على أمانهم لم يلزم استيفاؤها لهم : لوجودها في حال لا يوجب الكف عنهم ، وإن حدثت بعد أمانهم ، فهي نوعان حقوق أبدان ، وحقوق أموال :

فأما حقوق الأبدان كالقصاص في الجنايات ، فيلزم استيفاؤها لهم : لما يلزم من حراسة أبدانهم ، وإن كانت على مسلم استحقوا بها الدية ، وإن كانت على ذمي استحقوا بها القود .

فأما حقوق الأموال ، فإن لم يكن لأموالهم أمان لم يلزم استيفاؤها لهم ، واسترجعت الذمي لبيت المال ، وأقرت على المسلم إن أخذها قهرا بعد أخذ خمسها منه : لأنها غنيمة ، وإن أخذها اختلاسا انتزعت منه لبيت المال : لأنها فيء به . وإن كان لأموالهم أمان وجب استيفاؤها لهم ، كما وجب استيفاء حقوقهم من أبدانهم : لاشتمال أموالهم على أبدانهم وأموالهم ، فتستوفى من المسلم والذمي . فإن سرقت الأموال منهم ، قطع سارقها مسلما كان أو ذميا : لأنه لا شبهة في أموالهم بعد الأمان لمسلم ولا ذمي . [ ص: 329 ] وقال أبو حنيفة : لا أقطعه استحسانا .

ودليلنا : مع عموم الظواهر أن من ضمن ماله جاز أن يقطع سارقه ، قياسا على مال الذمي ، ولأن ما وجب بسرقة مال الذمي وجب بسرقة مال المستأمن كالضمان .

وأما الحكم الثالث في استيفاء الحقوق منهم فينظر ، فإن تقدمت على أمانهم لم يلزم استيفاؤها منهم ، سواء كانت لمسلم أو ذمي ، كما لا يلزم استيفاؤها من أهل الحرب إذا أسلموا ، وإن لزمتهم بعد أمانهم ، لم يخل ما لزمهم من الحقوق من ثلاثة أضرب :

أحدها : أن تكون حقوق الآدميين المحضة .

والثاني : أن تكون حقوق الله تعالى المحضة .

والثالث : أن تكون من الحقوق المشتركة .

فإن كانت من حقوق الآدميين المحضة نظر مستحقها ، فإن كان منهم لم يلزم استيفاؤها له ، سواء كانت في مال أو بدن ، وقيل لهم : إن تناصفتم وإلا نبذنا إليكم عهدكم ، ثم صرتم بعد بلوغ مأمنكم حربا . لما توجبه دار الإسلام من التناصف ، وإن كان مستحقها مسلما أو ذميا وجب أن يستوفى له حقه منهم ، سواء كان الحق في بدن كالقصاص أو في مال كالديون والغصوب : لأنه لما وجب بالأمان أن نؤمنهم ، وجب أن نؤمنهم بما يوجبه الأمان من تساوي الجهتين فيه .

وأما حقوق الله المحضة ، فقتل بردة وحد في زنا ، فأما القتل بالردة فيسقط عنهم ولا يستوفى منهم : لأن عهدهم يعم من يقر على دينه ومن لا يقر ، بخلاف الذمة التي لا تستقر إلا فيمن يقر على دينه ، ويكونون بعد الردة على عهدهم إلى انقضاء المدة .

وأما حد الزنا ، فيسقط عنهم كالقتل بالردة ، لكن ينظر في المزني بها ، فإنها إحدى ثلاث : إما معاهدة ، أو ذمية ، وإما مسلمة . فإن كانت معاهدة ، لم يلزم استتابة الزاني ، وقيل لهم : دار الإسلام تمنع من ارتكاب الفواحش ، فإن كففتم عنها وإلا منعتم من المقام فيها . وإن كان المزني بها ذمية ، وجب أن يستتابوا من هذا الزنا بمثلها ، ولم يكن ذلك نقضا لأمانهم ، فإن تابوا وإلا نبذنا إليهم عهدهم : ليبلغوا مأمنهم ، ثم يصيروا حربا . وإن كان المزني بها مسلمة ، كان الزنا نقضا لأمانهم إن شرط ذلك في عهدهم ، وبلغوا مأمنهم ، وصاروا حربا ، وإن لم يشترط ذلك عليهم في عهدهم استتيبوا منه ، فإن تابوا ، وإلا نبذنا إليهم عهدهم حتى يبلغوا مأمنهم ، ثم يصيروا حربا .

وأما الحقوق المشتركة بين حق الله تعالى وحق الآدميين فهي السرقة ، وهي مسألة الكتاب ، وإنما فرعنا ما قدمناه عليها : لارتباط بعضه ببعض ، اشتمل على تقسيم ما اتصل [ ص: 330 ] به من الأحكام ، فإذا سرق المعاهد في دار الإسلام مالا فإن كان من معاهد ، لم يلزمه أن يأخذه بغرم ولا قطع ، لكن يقال لهم : دار الإسلام توجب التناصف وتمنع التغالب ، فإن تناصفتم ، وإلا نبذنا إليكم عهدكم . وإن سرق من مسلم أو ذمي ، وجب أن يؤخذ بغرم ما سرق ، وفي وجوب قطعه قولان :

أحدهما : وهو المنصوص عليه هاهنا ، وفي كتاب الأم ، ونقله الحارث بن سريج النقال أنه لا يقطع : لأنه من حقوق الله تعالى ، وأشبه حد الزنا .

والقول الثاني : يقطع : لأنه لما لزمه القصاص حفظا للنفوس ، ولزمه حد القذف حفظا للأعراض ، لزمه قطع السرقة حفظا للأموال : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فجمع بين الدماء والأموال والأعراض في التحريم ، فوجب أن يستوي جميعها في الاستيفاء . فصار تحرير ما ذكرناه من قطع السرقة ، أن المسلم إذا سرق من مسلم أو معاهد غرم وقطع . والذمي إذا سرق من مسلم أو معاهد أغرم وقطع ، وإذا سرق من ذمي غرم ، وفي قطعه قولان . والمعاهد إذا سرق من معاهد لم يغرم ولم يقطع ، وإذا سرق من مسلم أو ذمي غرم ، وفي قطعه قولان .

التالي السابق


الخدمات العلمية