الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فأما إذا أنكر السرقة بعد دعواها عليه ، فلا يخلو أن يكون لمدعيها بينة أو لا يكون ، فإن كانت له بينة سمعناها ، والبينة بينتان : عامة ، وخاصة . فالعامة : ما أوجبت القطع والغرم . والخاصة : ما أوجبت الغرم ولم توجب القطع .

فأما العامة الجامعة للأمرين فهي شاهدان عدلان ، وكمال شهادتهما معتبر بخمسة شروط :

أحدها : ذكر السارق .

والثاني : ذكر المسروق منه .

والثالث : ذكر الحرز .

والرابع : ذكر المال .

والخامس : صفة السرقة .

لأن الحكم فيها يختلف باختلاف هذه الخمسة ، فلزم اعتبارها في الشهادة . وإذا كان كذلك لم يخل حال الأعيان من هذه الخمسة من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن تكون حاضرة .

والثاني : أن تكون غائبة .

والثالث : أن يكون بعضها حاضرا ، وبعضها غائبا .

فإن كانت حاضرة ، فعلى الشاهدين أن يعينا الشهادة بالإشارة ، فيقولان : نشهد أن هذا الرجل بعينه سرق من مال هذا الرجل بعينه ، من هذا الحرز بعينه ، هذا المال بعينه . ثم يصفان السرقة : لأنها فعل ماض لا تمكن الإشارة إليه فيه فيقولان : نقب الحرز ودخله ، وأخرج من هذه السرقة . وإن كان ذلك كله غائبا ، فعلى الشاهدين أن يصفا من ذلك ما يقوم مقام التعيين بالإشارة ، فيقولان : نشهد أن فلان بن فلان الفلاني سرق من مال فلان بن فلان الفلاني ، من حرز يصفانه ، ولا يجوز أن يطلقاه : لاختلاف الفقهاء في الحرز الذي يقطع منه . ويصفا المال بما تزول عنه الجهالة ، فإن كان ذا مثل لم يحتاجا فيه إلى ذكر القيمة في الشهادة ، لكن يعتبرها الحاكم في القطع . فإن لم يكن ذا مثل ذكرا قيمته . فإن شهدا بسرقة نصاب لم تسمع : لاختلاف الفقهاء في نصاب السرقة . ثم يصفان السرقة لما فيها من الاختلاف . فإذا استكملا الشهادة على ما بيناه حكم بشهادتهما في وجوب القطع والغرم . وإن كان بعض ذلك حاضرا وبعضه غائبا ، اعتبر في الحاضر الإشارة وفي الغائب الصفة . فإن اختلف الشاهدان في صفة المسروق ، فشهد أحدهما أنه سرق ثوبا مرويا ، وشهد الآخر أنه سرق ثوبا هرويا ، لم تكمل هذه الشهادة ، وكان اختلافهما في الصفة كاختلافهما في الجنس . [ ص: 336 ] وقال أبو حنيفة : هذه شهادة كاملة يجب بها القطع : لاتفاقهما على الجنس ، فلم يؤثر اختلافهما في الصفة . وهذا فاسد : لأن اختلافهما في الصفة يمنع من اتفاقهما على العين ، فصار كاختلافهما في الجنس المانع من الاتفاق على العين ، فوجب أن يكون القطع فيهما ساقطا .

وأما البينة الخاصة الموجبة للغرم دون القطع : فهي شاهد وامرأتان ، وشاهد ويمين : لأنها بينة توجب المال ولا توجب الحد ، وفي السرقة مال وحد ، فإن ثبت بينة الحدود جمع بين الغرم والقطع . وإن قام بينة الأموال وجب الغرم دون القطع ، ولا يلزم في هذه الشهادة ذكر الحرز وصفة السرقة : لأنهما شرطان في القطع دون الغرم ، وإن عدم المدعي البينة فلم يقمها على حد ولا مال أحلف السارق على إنكاره ، وسقط عنه إذا حلف الغرم والقطع . فإن نكل عن اليمين ردت على المدعي ، فإذا حلف حكم له بالغرم . فأما القطع فلا يجب : لأنه من حدود الله تعالى المحضة التي لا تدخلها الأيمان في إثبات ولا إنكار ، فصارت اليمين فيه مقصورة على الغرم دون القطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية