الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت أنها على الترتيب دون التخيير ، فقد اختلف من قال بترتيبها في صفة الترتيب على ثلاثة مذاهب : أحدها : وهو مذهب أبي حنيفة أنه إذا قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا قتل وأخذ المال قتل وقطع ، ونفيهم أن يحبسوا في بلدهم . والمذهب الثاني : وهو مذهب مالك أنه يقتل إذا كان من أهل الرأي والتدبير دون البطش والقتال : لأنه لا يكف عن التدبير إلا بالقتل ، وتقطع يده ورجله من خلاف إذا كان من أهل البطش والقتال دون الرأي والتدبير : لأنه يتعطل ، وإن كان مكثرا لا تدبير فيه ولا قتال نفي ، ونفيه : أن يخرج إلى بلد آخر ، يحبس فيه . فاعتبر الحد بصفة الفاعل ، ولم يعتبره بصفة الفعل ، وهو ضد ما وضعت له الحدود : لأنه يقتل من لم يقتل ، ولا يقتل من قتل . والمذهب الثالث : وهو مذهب الشافعي وبه قال عبد الله بن عباس : أنه إن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب . وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ولم يقطع . وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف . وإن لم يقتل ولم يأخذ المال عزر . ونفيهم أن يطلبوا لإقامة الحدود عليهم فيهربوا . فأما أبو حنيفة فمخالف فيه إذا جمع بين القتل وأخذ المال . قال أبو حنيفة : نقتله بالقتل ، ويكون الإمام في أخذ المال مخيرا بين ثلاثة أشياء : بين أن يقطع يده ورجله ولا يصلب ، وبين أن يصلبه ولا يقطع يده ورجله ، وبين أن يجمع بينهما فيقطع يده ورجله ويصلبه . وعند الشافعي : لا يجوز أن يجمع بين القتل والقطع . واستدل أبو حنيفة على جواز الجمع بينهما بأن الحدود إذا اختلفت باختلاف أسبابها جاز الجمع بين جميعها ، كالزنا والسرقة يجمع فيه بين الحد والقطع . ودليلنا : ما رواه ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك العرنيين وهم من بجيلة ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص فيمن حارب . فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده : لسرقته ورجله : لإخافته . ومن قتل فاقتله . ومن قتل ، وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه . وروى أبو داود في سننه ، عن ابن عباس ، أنه قال : وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي ، فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه ، فنزل جبريل بالحد فيهم أن [ ص: 355 ] من قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف . وهذا بمنزلة المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن ما نزل به جبريل عليه السلام لا يعلم إلا منه . وقد روي عن الشافعي ، عن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يوجدوا ، فيقام عليهم الحد . ولم يرو عنه نزول جبريل ، وهو حجة أيضا : لأنه قول صحابي لم يظهر خلافه ، فكان حجة . وابن عباس ترجمان التنزيل وحبر التأويل ، ولأن ما أمر الله تعالى به من الصلب لا يخلو من ثلاثة أحوال : إما أن يكون للقتل وحده ، وهو مدفوع بوفاقه . أو يكون لأخذ المال وحده ، وهو مدفوع بوفاقه . أو يكون بهما جميعا ، وهو مسلم بوفاقه . وإذا كان مستحقا فيهما لم يجز أن يكون مخيرا بينه وبين غيره : لأمرين : أحدهما : ما دللنا عليه من سقوط التخيير في هذه الآية . والثاني : أنه حد واحد ، والتخيير فيه يخرجه عن الحدود الواجبة . فأما الجواب عن استدلاله بأن اجتماع الحدود المختلفة لا يوجب تداخلها : فمن وجهين : أحدهما : أنه يقول في الزاني الثيب إذا سرق : رجم ولم يقطع . فبطل به استدلاله . والثاني : أن ما لا يتداخل ، لا يكون فيه تخيير ، وقد أثبت التخيير هاهنا ، فبطل به استدلاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية