الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر أن سفر القصر محدود فحده على مذهب الشافعي أربعة برد ، وهو ستة عشر فرسخا ، لأن البريد أربعة فراسخ وهو ثمانية وأربعون ميلا : لأن الفرسخ ثلاثة أميال ، والميل اثنا عشر ألف قدم ، وذلك على سير النقل ، ودبيب الأقدام مسافة يوم ، وليلة سيرا متصلا ، وقد ذكره الشافعي في مواضع متفرقة بألفاظ مختلفة ومعان متفقة ، فقال في هذا الموضع ستة وأربعين ميلا بالهاشمي ، يريد إذا لم يعد الميل في الابتداء ، والميل في الانتهاء .

وقال في القديم : أربعين ميلا يريد أميال بني أمية ، وقال في " الإملاء " ليلتين قاصدتين يريد سوى الليلة التي بينهما ، فهذا وإن اختلفت ألفاظه فمعانيه متفقة وليس ذلك بأقاويل مختلفة ، وتحقيق ذلك مرحلتان كل مرحلة ثمانية فراسخ على غالب العادة في سير النقل ودبيب الأقدام ، وبه قال من الصحابة ابن عمر وابن عباس وإسحاق .

وقال أبو حنيفة والثوري : لا يجوز القصر في أقل من ثلاث مراحل وهي مسيرة ثلاثة أيام .

ومن الفقهاء مالك ، والليث ، وأحمد ، وبه قال من الصحابة ابن مسعود استدلالا برواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم .

قال الماوردي : فلما جعل المحرم شرطا في الثلاثة ، ولم يجعله شرطا فيما دونها علم [ ص: 361 ] أن الثلاثة حد السفر ، وما دونها ليس بسفر ، إذ لا يجوز أن تسافر بغير ذي محرم . وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن فقصد بإدخال الألف واللام جنس المسافر ، فأباحهم المسح ثلاثا ، فعلم أن من لا يكرر المسح ثلاثا ليس بمسافر ، قالوا : ولأن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل ، ولا يجوز له القصر في قليل السفر ، فوجب أن يكون أقل الكثير وهو الثلاث حدا له .

ودليلنا عموم قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] فاقتضى هذا الظاهر جواز القصر في جميع السفر إلا ما خصه " الدليل من مسافره دون اليوم والليلة .

وروى عطاء ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد وذلك من مكة إلى عسفان .

ولأنها مسافة تلحق المشقة في قطعها غالبا ، فوجب أن يجوز القصر فيها كالثلاث ، ولأنها مسافة تستوفى فيها أوقات الصلوات الخمس على وجه التكرار في العادة ، فجاز له القصر فيها كالثلاث ، ولأنه زمان مضروب المسح ، فجاز أن يكون حد السفر للقصر كالثلاث ، ولأن كل زمان تكررت فيه الفريضة الواحدة لم يكن حد السفر القصر كالأسبوعين في تكرار الجمعتين .

فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم .

فقد روي : مسافة يوم ، وروي : مسافة يومين ، فلما اختلفت فيه الروايات لم يجز الاستدلال به .

وأما حديث المسح فلا حجة فيه لأنه يقدر على مسح الثلاث في مسافة يوم وليلة إذا سار ما في ثلاث .

وأما الجواب عن قوله : الثلاث أقل حد الكثير ، فلا يصح من وجهين :

أحدهما : أن الثلاث في الشرع معتبرة بحكم ما دونها لا بحكم ما زاد عليها كشرط الخيار ، وحد المقام ، واستتابة المرتد ، فاقتضى أن يعتبر بها في السفر حكم ما دونها ، ونحن كذا نقول .

والثاني : أن اعتبار الثلاث فيما يتعلق بالزمان ، والاعتبار في السفر بالسير لا بالزمان ، فلم يكن لاعتباره في الثلاث وجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية