الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ومن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه سقط عنه الحد ، ولا تسقط حقوق الآدميين . ويحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة . وقال في كتاب الحدود : وبه أقول " . [ ص: 369 ] قال الماوردي : وأصل هذا قول الله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم [ المائدة : 34 ] فعطف بهذا الاستثناء على ما تقدم من حدود المحاربة ، فاختلف أهل العلم في المراد بهذه التوبة : فحكي عن عبد الله بن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة : أنها الإسلام . وهو قول من زعم أن حدود الحرابة وردت في المشركين ، ويكون معنى الآية : إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم في الأرض فسادا بإسلامهم . فأما المسلمون فلا تسقط التوبة عنهم حدا وجب عليهم . وذهب جمهور أهل العلم القائلون بأن حدود الحرابة وردت في المسلمين : إلى أنها التوبة من قصاص الحدود . واختلف من قال بهذا في أمان الإمام لهم ، هل يكون شرطا في قبول توبتهم ؟ فحكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام والشعبي وطائفة : أن أمان الإمام شرط فيها ، ومن لم يؤمنه الإمام لم تسقط التوبة عنه حدا . وذهب جمهورهم إلى أن أمان الإمام غير معتبر فيها ، والاعتبار بتأثيرها في الحدود أن يكون قبل القدرة عليهم . واختلف من قال بهذا من صفة القدرة عليهم على ثلاثة أقاويل : أحدها : أن يكون بعد لحوقهم بدار الحرب وإن كانوا مسلمين ، ثم عودهم منها تائبين قبل القدرة عليهم . فإن لم يلحقوا بدار الحرب ، لم تؤثر التوبة في إسقاط الحدود عنهم . وهذا قول عروة بن الزبير . والثاني : أن يكون لهم في دار الإسلام فئة يلجأون إليها ويمتنعون بها ، فإن لم يمتنعوا بفئة لم تؤثر توبتهم في سقوط الحدود عنهم ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، وعمرو بن أبي ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، والحكم بن عيينة . والثالث : وهو قول جمهور الفقهاء أن لا تمتد إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع ، فيخرجوا عن القدرة عليهم ، فتؤثر توبتهم فيما سقط عنهم ، ومن امتدت إليه يد الإمام فهو تحت القدرة عليه . واختلف من قال هذا في رفعه إلى الإمام ، هل يكون شرطا في القدرة عليه على قولين : أحدهما : لا يكون شرطا : لأنه في الحالين قادر عليه . والثاني : يكون شرطا في القدرة عليه : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سارق رداء صفوان : هلا قبل أن تأتيني به ، لا عفا الله عني إن عفوت واختلفوا فيما يسقط التوبة عنهم من الحقوق على ثلاثة مذاهب : أحدها : وهو قول علي عليه السلام أنها تسقط عنهم جميع الحقوق لله عز وجل وللآدميين من الحدود والدماء والأموال . روي أن حارثة بن زيد خرج محاربا فأخاف السبيل ، وسفك الدماء ، وأخذ الأموال ، وجاء تائبا قبل القدرة عليه ، فقبل علي عليه [ ص: 370 ] السلام توبته ، وجعل له أمانا منشورا على ما كان أصاب من دم ومال . والثاني : وهو مذهب مالك بن أنس أنها تسقط عنهم جميع الحدود والحقوق إلا الدماء : لتغليظها على ما سواها . والثالث : وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة أنها تسقط عنهم حدود الله تعالى ، ولا تسقط عنهم حقوق الآدميين من الدماء والأموال لاختصاص التوبة بتكفير الإمام دون حقوق العباد .

التالي السابق


الخدمات العلمية