الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 376 ] كتاب الأشربة والحد فيها قال الشافعي رحمه الله : " كل شراب أسكر كثيره ، فقليله حرام " . قال الماوردي : أصل المسكرات كلها الخمر ، وما سواه من الأنبذة المسكرة تابع له ومستنبط منه . والخمر : هو عصير العنب إذا صار مسكرا بحدوث الشدة المطربة فيه ، فيصير خمرا بشرطين : الشدة والسكر . وقال أبو حنيفة : لا يصير خمرا بها حتى ينضم إليهما شرط ثالث ، وهو أن يقذف زبده . وليس قذف الزبد عندنا شرطا : لأنه لا تأثير له في شربها . وفي تسميتها خمرا تأويلان : أحدهما : لأنه يخمر عصيره في الإناء حتى يصير خمرا ، أي : يغطى ، ولو لم يغط لم يصر خمرا . والتخمير : التغطية ، ومنه سمي خمار المرأة : لأنه يغطيها ويسترها . والثاني : لأنه يخامر العقل بالسكر ، أي : يغطيه ويخفيه . وقد كان الخمر في صدر الإسلام يشربها المسلمون ولا يتناكرونها ، واختلف أصحابنا في استباحتهم لشربها ، هل كان استصحابا لحالهم في الجاهلية ، أو بشرع ورد في إباحتها ؟ على وجهين : أحدهما : أنهم استصحبوا إباحتها في الجاهلية : لأنه لا تقدم منع منها ، ولا تحريم لها ، هذا أشبه الوجهين . والثاني : أنهم استباحوا شربها بشرع ورد فيها ، وهو قول الله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] . وفيه ثلاث تأويلات : أحدها : أن السكر ما أسكر من الخمر والنبيذ ، والرزق الحسن وهو ما أثمر من [ ص: 377 ] التمر والزبيب ، ونزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حرمت الخمر من بعد ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وشاهده من اللغة قول الأخطل :

بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر

والسكر : الخمر . والمزاء : نوع من النبيذ المسكر . والتأويل الثاني : أن السكر الخل بلغة الحبشة . وقيل : بلغة أزد عمان . والتأويل الثالث : أن السكر الطعام ، والرزق الحسن : الاثنان ، وهذا قول الأخفش ، وشاهده قول الشاعر :

وجعلت عيب الأكرمين سكرا

أي : طعاما حلالا ، ثم نزل تحريم الخمر ، واختلف الناس في سببه على خمسة أقاويل : أحدها : ما حكاه ابن عباس : أن قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب ، فعبث بعضهم ببعض ، فنزل تحريم الخمر . والثاني : ما حكاه مصعب بن سعد : أن أباه سعد بن أبي وقاص لاحا رجلا على شراب ، فضربه الرجل بلحى جمل ففرز أنفه ، قال السدي : وكان سعد قد صنع طعاما ، ودعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشوى لهم رأس بعير ، وفيهم رجل من الأنصار فغضب من شيء تكلم به سعد ، فكسر أنفه بلحى البعير ، فنزل تحريم الخمر . والثالث : ما رواه عوف عن أبي القلوص : أن رجلا سكر من الخمر ، فجعل ينوح على قتلى بدر ، ويقول :

تحيي بالسلامة أم بكر     وهل لي بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح بكرا فإني     رأيت الموت نبث عن هشام
ووديني المغيرة لو فدوه     بألف من رجال أو سوام
وكائن بالطوي طوي بدر     من الشيزى تكلل بالسنام
وكائن بالطوي طوي بدر     من القينات والحلل الكرام

[ ص: 378 ] فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب ، وأقبل الرجل فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان معه بيده ليضربه ، فقال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ، والله لا أطعمها أبدا . فنزل تحريم الخمر . والرابع : ما رواه عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ودعا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، فقدموا رجلا منهم فصلى بهم المغرب فقرأ " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي ديني فنزل قول الله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ سورة النساء : 43 ] ثم حرمت . والخامس : ما رواه محمد بن إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر بن الخطاب : " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزل في سورة البقرة قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 219 ] الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزل في سورة النساء قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] فدعي عمر فقرئت عليه . فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزل في سورة المائدة قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء الآية إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ المائدة : 90 ] ، فحين سمعها عمر قال : انتهينا انتهينا . فهذه ثلاث آيات نزلت في الخمر ، ونزلت فيه آية رابعة في سورة الأعراف وهي قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق [ الأعراف : 33 ] . والإثم هاهنا : الخمر في قول الأكثر : لقول الشاعر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي     كذاك الإثم يذهب بالعقول

[ ص: 379 ] فهذه أربع آيات نزلت في شأن الخمر . نحن نبدأ بتفسير كل آية منها ، ونذكر ما قاله العلماء فيما حرمت به الخمر فيها . أما الآية الأولى في سورة البقرة : وهي قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] فقد قال مقاتل : إن الذي سأل عنها حمزة بن عبد المطلب ، ومعاذ بن جبل . وقال عطاء : هو عمر بن الخطاب ، حين قال في الخمر ما قال . واسم الخمر ينطلق حقيقة على عصير العنب . واختلف أصحابنا في انطلاقه حقيقة على ما عداه من الأنبذة على وجهين : أحدهما : وهو قول أبي إبراهيم المزني ، وأبي علي بن أبي هريرة أنه يطلق اسم الخمر على سائر الأنبذة حقيقة : لأن الاشتراك في الصفة يقتضي الاشتراك في الاسم . والوجه الثاني : أنه يطلق اسم الخمر على سائر الأنبذة مجازا لا حقيقة ، وأن حقيقة اسم الخمر مختص بعصير العنب : لأنهما يتفقان في صفة ، ويختلفان في أخرى ، ويشتركان في الحكم من وجه ويختلفان فيه من وجه ، فافترقا في الاسم : لافتراقهما في بعض الصفات وبعض الأحكام . وأما الميسر : فهو القمار ، وفي تسميته بالميسر وجهان : أحدهما : أن أهل اليسار والثروة كانوا يفعلونه . والثاني : لأنه موضوع على ما ينزله من غنم أو غرم . قل فيهما إثم كبير [ البقرة : 219 ] فيه وجهان : أحدهما : أن إثم الخمر : أن شاربه يؤذي الناس إذا سكر . وإثم الميسر : أن صاحبه يظلم الناس إذا عومل . وهذا قول السدي . والثاني : أن إثم الخمر : أن يزول عقل شاربه فتغرب عنه معرفة خالقه . وإثم الميسر : أن يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله والصلاة . وهذا قول ابن عباس . ومنافع للناس وفي منافع الخمر وجهان : أحدهما : وفور ثمنها ، وربح تجارها . والثاني : أنه لذة شربها ، وما يحصل في النفس من الطرب كما قال حسان بن ثابت : [ ص: 380 ]

ونشربها فتتركنا ملوكا     وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

وكقول آخر :

وإذا شربت فإنني     رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني     رب الشويهة والبعير

وفي منافع الميسر وجهان : أحدهما : اكتساب المال من غير حل . والثاني : ما يحصل الحاضر به من نصيب القامر . وذكر بعض المفسرين وجها ثالثا : وهو أن منفعة الخمر والميسر بشأن اجتنابهما ، ثم قال تعالى : وإثمهما أكبر من نفعهما فيه وجهان : أحدهما : أن الإثم الحادث عنهما أكثر من النفع العائد منهما قاله سعيد بن جبير . والثاني : أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم . قاله ابن عباس . ويسألونك ماذا ينفقون ، فيه وجهان : أحدهما : في الجهاد . والثاني : في الصدقات . قل العفو ، فيه أربعة أوجه : أحدها : ما طالبت به النفس عفوا ، ولم يسأل عليها . قاله طاوس . والثاني : أنهما لا طرف فيه ولا تقصير ، قاله الحسن . والثالث : إنه ما فضل عن الأهل والعيال . قاله ابن عباس . والرابع : إنه الحلال الطيب . كذلك يبين الله لكم الآيات فيه ثلاثة أوجه : أحدها : الصدقات . والثاني : الأحكام . والثالث : الدلائل والحجج . لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فيه وجهان : أحدهما : تتفكرون في الدنيا أنها دار فناء فتزهدون فيها ، وفي الآخرة أنها دار بقاء فتعملون لها . [ ص: 381 ] والثاني : تتفكرون في أوامر الله ونواهيه فتستذكرون طاعة الله في الدنيا وثوابه في الآخرة . وأما الآية الثانية في سورة النساء ، وهي قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] ففي قوله : لا تقربوا الصلاة وجهان : أحدهما : أنه نهي عن الصلاة في حالة سكر . والثاني : أنه نهي عن الشرب في وقت الصلاة . وفي قوله تعالى : وأنتم سكارى وجهان : أحدهما : من الشراب ، وهو قول الجمهور . والثاني : من النوم ، قاله الضحاك . وأصل السكر من الشراب : مأخوذ من سكر الماء : لأنه يسد مجرى الماء ، فالسكر من الشراب أن يسد طريق العقل . وفي قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون وجهان : أحدهما : حتى تميزوا ما تقولون من الكلام . والثاني : حتى تحفظوا ما تتلون من القرآن : لأجل ما كان فيمن أمر بالصلاة في سكره ، فلم يقم بسورة قل ياأيها الكافرون فدلت هذه الآية على إباحة الخمر في غير زمان الصلاة ، وتحريمها في زمان الصلاة ، وفيه قولان : أحدهما : أنه معتبر بفعل الصلاة إذا حضر فعلها ، فإذا صلى صفت له ، وإن كان وقتها باقيا . روى ابن إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي : لا يقربن الصلاة سكران . والثاني : أنه معتبر بوقت الصلاة ، يحرم فيه على من صلى ومن لم يصل ، وفي توجيه التحريم إليه قولان : أحدهما : إلى السكر دون الشرب ، وهو ظاهر الآية . والثاني : إلى الشرب والسكر جميعا . روى أسباط ، عن السدي ، أنه قال : لما نزلت هذه الآية كانت الخمر حلالا لهم ، يشربونها من صلاة الغداء حتى ينتصف النهار ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مصحون ، [ ص: 382 ] ثم لا يشربونها حتى يصلوا العصر ، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل ، وينامون ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وهم مصحون . وأما الآية الثالثة في سورة المائدة ، وهي قوله تعالى : إنما الخمر والميسر وقد مضى الكلام فيها ، والأنصاب والأزلام فيها قولان : أحدهما : أن الأنصاب الأصنام التي تعبد ، والأزلام قداح من خشب يستقسم بها . والثاني : الأنصاب حجارة حول الكعبة ، كانوا يذبحون عليها ، والأزلام تسع قداح ذوات أسماء حكاها الكلبي يستقسمون بها في أمورهم ويجعلون لكل واحد منهما حكما ، ثم قال رجس من عمل الشيطان وفيها أربعة أوجه : أحدها : سخط . والثاني : شر . والثالث : إثم . والرابع : حرام . من عمل الشيطان أي : مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به : لأنه لا يأمر إلا بالمعاصي ، ولا ينهى إلا عن الطاعات ، وأصل الرجس المستقذر الممنوع منه ، فعبر به عن ذلك : لكونه ممنوعا منه ، ثم قال فاجتنبوه يحتمل وجهين : أحدهما : فاجتنبوا الرجس أن تفعلوه . والثاني : فاجتنبوا الشيطان أن تطيعوه لعلكم تفلحون فيه وجهان : أحدهما : تهتدون . والثاني : تسلمون . ثم قال : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر بحصول الشر والتنافر : لحدوث السكر وغلبة القمار ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فيه وجهان : أحدهما : أن الشيطان يصدكم عنه . والثاني : أن سكر الخمر يصدكم عن معرفة الله ، وعن الصلاة ، وطلب الغلبة في القمار يشغل عن طاعة الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فيه وجهان : أحدهما : منتهون عما نهي عنه من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام . وأخرجه مخرج الاستفهام وعيدا وتغليظا . والثاني : فهل أنتم منتهون عن طاعة الشيطان فيما زينه لكم من ارتكاب هذه المعاصي . وأما الآية الرابعة في سورة الأعراف وفي قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن فيه وجهان : [ ص: 383 ] أحدهما : أن الفواحش الزنا خاصة ، وما ظهر منها الأنكحة الفاسدة ، وما بطن السفاح الصريح . والثاني : أن الفواحش جميع المعاصي ، وما ظهر منها أفعال الجوارح ، وما بطن اعتقاد القلوب والإثم والبغي بغير الحق فيه وجهان : أحدهما : أن الإثم : الجناية في الأموال . والبغي : التعدي على النفوس . والثاني : أن الإثم : الخمر . والبغي : السكر . وقد ذكرنا شاهدهما ، فسماهما بما يحدث عنهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية