الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت تحريم الخمر بنص الكتاب والسنة ، فيحرم قليلها وكثيرها معا ، صرفا وممزوجة . وحكي عن الحسن البصري وطائفة من المتكلمين : أنها تحرم إذا كانت صرفا ، ولا تحرم إذا مزجت بغيرها . لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حرمت الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب . قالوا : وليست الممزوجة بعينها ، فلم يتوجه إليها التحريم . وهذا تأويل فاسد وذلك ظاهر : لما قدمناه من عموم النص في الكتاب والسنة ، ولو حلت بالمزج لبطل مقصود التحريم ، ولجاز إذا ألقي فيها حصاة أو عود أن تحل ، ولتوصل إلى مراد شربها إلى الاستباحة ، ولم يكن للنصوص فيها تأثير ، وسنذكر معنى الحديث من بعد . فإذا تقرر هذا لم يخل حال شاربها من أن يستحل شربها أو لا : فإن شربها مستحلا ، كان كافرا باستحلالها : لأنه استحل ما حرمه النص . فيجري عليه حكم المرتد في القتال إن لم يتب . وإن شربها غير مستحل لم يكفر . وتعلق بشربها ثلاثة أحكام : [ ص: 286 ] أحدها : مأثم التحريم . والثاني : الفسق بالخروج من العدالة . والثالث : وجوب الحد على ما سنذكره . وسواء سكر من شربها أو لم يسكر . وزعم قوم أن الحد فيها تعزير ، ويجوز أن يقام عليه ، ويجوز أن يعفى عنه ، وليس كما زعموا ، بل هو حد . روى شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين . فإن تكرر منه الشرب قبل الحد ، أقيم عليه حد واحد . فإن تكرر منه الشرب بعد الحد ، كرر عليه الحد ولم يقتل . وروى الشافعي ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن قبيصة بن ذؤيب يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه . قالوا : فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده ، ثم أتي به الثانية فجلده ، ثم أتي به الثالثة فجلده ، ثم أتي به الرابعة فجلده ، ووضع القتل فكانت رخصة . ثم قال الزهري لمنصور بن المعتمر ، ومخول بن راشد : كونا وافدي العراق بهذا الحديث وغيره . قال الشافعي : فالقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره . وإنما قال : وغيره : لأن هذا الحديث مرسل . والمراسيل عنده ليست بحجة ، واختلف فيما أراده بغيره على وجهين : أحدهما : حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير نفس . وقد أشار إليه الشافعي في كتاب الأم . والثاني : أراد ما رواه محمد بن إسحاق ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه . فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده ، ثم أتي به الثانية فجلده ، ثم أتي به الثالثة فجلده ، ثم أتي به الرابعة فجلده ، ووضع القتل . وقد روى زكريا الساجي هذا الحديث ، وسمى الرجل بنعمان . [ ص: 387 ] وهذا الحديث مسند ، ولم يروه الشافعي ، وإن أشار إليه . فثبت أن القتل منسوخ ، فهذا حكم الخمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية