الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والدليل على تحريمه : قول الله تعالى في تحريم الخمر : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ المائدة : 191 ] وهذا المعنى موجود في النبيذ كوجوده في الخمر ، فوجب أن يستويا في التحريم لاستوائهما في التعليل . ومن السنة ما رواه أيوب ، وموسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام . فدل على تسمية النبيذ خمرا ، وعلى تحريمه كالخمر . وروى طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل خمر حرام ، وكل مسكر حرام . فإن قيل : قد روى عباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، أنه قال : ثلاثة أحاديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر . ولا نكاح إلا بولي . ومن مس ذكره فليتوضأ . ففيه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن أحمد بن حنبل أثبت وأعلم بطريق الحديث وصحته من يحيى ، وقد أثبت هذا الحديث ، ورواه في كتاب الأشربة . والثاني : أنه لا يقبل منه إنكار هذا الحديث إذا رواه الثقة ، حتى يبين وجه فساده ، وقد رواه من ذكرنا . والثالث : أن الأخذ به والعمل عليه قد سبق يحيى ، فلم يكن حدوث قدحه مؤثرا . فإن قيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمنا الأسماء ، وإنما يعلمنا الأحكام ، لأن أهل اللغة قد شاركوه في معرفتها لتقدم اللسان العربي على مجيء الشرع . ففيه جوابان : أحدهما : أنه يجوز أن تؤخذ عنه الأسماء شرعا ، إذا تعلقت عليها أحكام ، كما تؤخذ الأحكام : لأن الصلاة كانت في اللغة الدعاء ، فنقلها الشرع إلى أفعالها ، وكذلك [ ص: 392 ] الزكاة والصيام ، فلم يمتنع أن ينقل اسم النبيذ إلى الخمر . والثاني : أن النبيذ نوع من الخمر ، واسم الخمر أعم ، ودخل في اسم الأعم ، وهو الخمر عموما وانفرد باسم النبيذ خصوصا ، فبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لمن خفي عليه . وقد روى عبيد بن الأبرص وهو شاعر جاهلي سبق ورود الشرع :

وقالوا هي الخمر تكنى الطلا كما الذئب يكنى أبا جعدة

والطلاء : اسم نوع منه يختص بالمطبوخ دون النيء . روى عبد الرحمن بن غنم ، عن ابن مالك الأشعري ، قال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها . وسنذكر من أنواع أسمائها ما يدخل في عموم الخمر ، ويدل عليه : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع . فقال : كل شراب أسكر فهو حرام . فإن قيل : الذي أسكر هو القدح الأخير الذي ظهر به السكر وهو حرام وما قبله غير مسكر ، فكان حلالا . ففيه ستة أجوبة : أحدها : أن المراد بالسكر صفة جنسه ، فانطلق على قليله وكثيره ، كما يقال في الطعام . والثاني : أن تعليق التحريم بالأخير يوجب تعليقه بالأول والأخير : لأن أول الأخير لا يسكر كأول الأول ، ثم كان أول الأخير حراما كآخره ، فكذلك الأول يجب أن يكون حراما كالأخير . والثالث : أنه ليس جزءا من أجزاء الخمر الأول ، ويجوز أن يكون هو الأخير المحرم ، وهو غير متميز ، فوجب أن يكون الكل حراما . والرابع : أن كل مقدار من الخمر يجوز أن يسكر : لأن الصغير يسكر بقليله كما يسكر الكبير بكثيره ، ومن الناس من يسكر بقليله ، ومنهم من لا يسكر بكثيره ، فصار كل شيء منه مسكرا ، فوجب أن يكون حراما . والخامس : أن لكل جزء من الخمر تأثيرا في السكر ، والقدح الأول مبدأه والقدح الأخير منتهاه ، فصار قليله وكثيره مسكرا ، فوجب أن يكون حراما ، كالضرب القاتل يكون بالسوط الأول مبدأ الألم ، والأخير غايته ، والجميع قاتل . [ ص: 393 ] والسادس : أن الأخير الذي يسكر لا يعلم أنه مسكر إلا بعد شربه ، فلم يصح تعليق التحريم به . وقد روى هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر حرام أوله وآخره . وروى القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أسكر الفرق منه ، فاللحسة منه حرام . والفرق : أحد مكاييل العرب ، وهو ستة عشر رطلا . لأن لهم أربعة مكاييل : المد : وهو رطل وثلث . والقسط : وهو ضعف المد ، رطلان وثلثان . والصاع : وهو ضعف القسط خمسة أرطال وثلث . والفرق : وهو ثلاثة أضعاف الصاع ، ستة عشر رطلا . فدل هذا على تحريم القليل والكثير . ويدل عليه ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، بأسانيد ثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام . وروى سعد بن أبي وقاص ، وخباب بن الأرت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره . فإن قيل : إنما أراد بتحريم قليله الأخير الذي يظهر به السكر ، فصار هو المحرم دون ما تقدمه من الكثير الذي لم يسكر . ففيه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن هذا تكلف تأويل يخالف الظاهر فكان مطرحا . والثاني : أن هذا الحديث يعم الخمر والنبيذ ، فلما لم يحمل على هذا التأويل في الخمر لم يجز حمله عليه في النبيذ . والثالث : أنه إذا حرم القليل كان تحريم الكثير أغلظ ، كالخمر إذا حرمت بغير سكر ، كان تحريمها بالسكر أغلظ . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من شرب خمرا لا تقبل له صلاة سبعة أيام ، ومن [ ص: 394 ] سكر منها لم تقبل صلاته أربعين يوما . ويدل عليه ما روى الشافعي ، عن أبي سليمان التيمي ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت قائما على عمومة لي من الأنصار أسقيهم فضيخا لهم ، فأتى رجل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذعور ، فقلنا : ما وراءك ؟ فقال : حرمت الخمر . فقالوا لي : اكفئها . فكفأتها . قال : وهو كان خمرهم يومئذ . وروى الشافعي ، عن مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت أسقي عمومتي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبا طلحة الأنصاري ، وأبي بن كعب ، شرابا لهم من فضيخ وتمر ، فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت . فقال أبو طلحة : يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها . قال : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت . والفضيخ من البسر ، فجعلوه خمرا محرما . والمهراس الفأس . وروى أبو داود في سننه بإسناده ، عن أبي موسى الأشعري أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل . فقال : ذلك البتع . قلت : وينبذون من الشعير والذرة . فقال : ذلك المزر . ثم قال : أخبر قومك أن كل مسكر حرام . وروى إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن ، فقال : بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تعاصيا . فقال معاذ : يا رسول الله إنك تبعثنا إلى بلاد كثير شراب أهلها فما نشرب ؟ قال : اشربوا ، ولا تشربوا مسكرا . وروى أحمد بن حنبل ، والحميدي في كتابهما في الأشربة ، عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن ديلم الحميري ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج بها عملا شديدا ، وإنا نتخذ شرابا من هذا الفضيخ ، فنقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يسكر ؟ قلت : نعم . قال : فاجتنبوه . فقلت : إن الناس غير تاركيه . قال : فإن لم يتركوه فاقتلوهم . [ ص: 395 ] وروى الحميدي في كتابه ، عن جابر بن عبد الله أن نفرا من حبشان أهل اليمن قالوا : يا رسول الله إن أرضنا أرض باردة ، وإنا نعمل بأنفسنا ، وليس لنا من ممتهن دون أنفسنا ، ولنا شراب نشربه بأرضنا يقال له المذر ، فإذا شربناه نفى عنا البرد . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسكر هو ؟ قالوا : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام ، وإن الله تعالى عهد إلي أن كل من شرب مسكرا أن يسقيه من طينة الخبال . قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار ، أو عصارة أهل النار . روى أبو سعيد السحيتي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة . فإن قالوا : يسمى ما يعمل من النخلة خمرا ، على طريق المجاز . لا يصح هذا : لأنه جمع بين العنبة والنخلة ، وهو من العنب خمر على الحقيقة ، فكذلك من النخلة . فإن قيل : فنحمله في العنب على الحقيقة ، وفي النخل على المجاز . قيل : لا يصح هذا على أصل أبي حنيفة : لأن اللفظة الواحدة لا يجوز أن يراد بها الحقيقة والمجاز على قوله ، فلم يجز تأويله عليه ، على أن المجاز إذا وافقه عرف الشرع صار حقيقة تقدم على حقيقة اللغة إذا خالفها . وقد روى الأعمش ، عن محارب ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الزبيب والتمر هي الخمر وهذا نص في حقيقة الاسم دون مجازه . وروى الشعبي ، عن نعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن من العنب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا ، وإن من البسر خمرا ، وإن من الشعير خمرا . وهذا نص لا يعترضه تأويل ، فهذه نصوص السنة . وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم ما يعاضدها . فمن ذلك : ما روى الشعبي ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل . [ ص: 396 ] فدل على أمرين : أحدهما : إطلاق اسم الخمر على النبيذ . والثاني : تعليل الخمر : لأنه ما خامر العقل . ومثل ذلك في الاسم : ما رواه صفوان بن محرز ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري وهو يخطب الناس على منبر البصرة ، وهو يقول : ألا إن خمر المدينة البسر والتمر ، وخمر أهل فارس العنب ، وخمر أهل اليمن البتع ، وخمر الحبشة السكركة : وهي الأرز . ومن ذلك ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن السائب بن زيد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يصلي على جنازة ، فشم من ابنه عبيد الله رائحة شارب ، فسأله ، فقال : إني شربت الطلا . فقال : إن عبيد الله ابني شرب شرابا ، وإني سائل عنه ، فإن كان مسكرا حددته . فسأل عنه فكان مسكرا فحده . وروي أنه لما سأل عنه ، أنشد قول أبي عبيدة بن الأبرص :

هي الخمر لا شك تكنى الطلا     كما الذئب يكنى أبا جعدة

ومن ذلك ما رواه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب ، أنه قال : لا أوتى بأحد شرب خمرا أو نبيذا مسكرا إلا حددته . ومن ذلك ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " خمر البتع من العسل ، وخمر المزر من الذرة " . ومن ذلك ما رواه مجاهد ، عن ابن عمر ورجل سأله عن الفضيخ ، فقال : وما الفضيخ ؟ قال : بسر وتمر . قال : ذاك الفضوخ ، لقد حرمت الخمر وهي شرابنا ومن ذلك ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، قال : سمعت أبا الجويرية الجرمي يقول : سألت ابن عباس وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، وأنا والله أول العرب سألته عن الباذق . فقال : سبق محمد الباذق ، فما أسكر فهو حرام . والباذق المطبوخ قال ابن عباس : هي كلمة فارسية عربت . فهذا قول : من ذكرنا من الصحابة وغيرهم ، وليس له مخالف ، فكان إجماعا . ثم نتبع ما ذكرنا من السنن والآثار ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن أوانيها . [ ص: 397 ] وذلك ما روى الشافعي ، عن ابن علية ، عن إسحاق بن شريك ، عن معاذ ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير . وتفسير هذه الأواني محكي عن أبي بكرة الثقفي ، قال : أما الدباء : فإنا معاشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء يعني اليقطينة من القرع ، فنخرط فيها عناقيد العنب ، ثم ندفنها حتى تهدر ، ثم تموت . وأما النقير : فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ، ثم يشرفون فيها الرطب أو البسر حتى تهدر أو تموت . وأما المزفت : فالأوعية التي تطلى بالزفت . وأما الحنتم : فجرار حمر كانت تحمل إلينا فيها الخمر . وقال الأصمعي : هي الجرار الخضر خاصة . وقال آخرون : كل نوع من الجرار حنتم ، وإن اختلفت ألوانها . وهو الأصح لرواية الشافعي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن ابن أبي أوفى ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في هذه الأواني وإن كان حكم جميعها واحدا ، تأويلان : أحدهما : أنه كان ذلك قبل تحريم الخمر ، فجعل النهي عن هذه الأواني مقدمة ينوطون بها على ما يرد بعدها من تحريم الخمر : لأنهم قد كانوا ألغوها فواطأهم لتحريمها . والتأويل الثاني : أنه كان ذلك بعد التحريم : لأنه حرم عليهم المسكر وأباحهم غير المسكر ، وهذه الأواني يتعجل إسكار شاربها ، فنهى عنها : ليطول مكث ما لا يسكر في غيرها : ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة ما نش من الشراب ، وأتي بشراب قد نش فضرب به عرض الحائط ، وقال : إنما يشرب هذا من لا خلاق له . ومن ذلك ما رواه الشافعي ، عن عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجمعوا بين الرطب والبسر ، وبين الزبيب والتمر نبيذا وفي نهيه عن الجمع بينهما ما ذكرنا من التأويلين ، وإن كان حكمها في الانفراد والجمع سواء . أحد التأويلين : أن ذلك قبل التحريم : توطئة لهم في التحريم : لأنهم كانوا [ ص: 398 ] يجمعون بينها لقوة شدتها وكثرة لذتها ، ويسمونه نبيذ الخليطين . والثاني : أنه بعد التحريم : لأن جمعها يعجل حدوث السكر منها ليدوم عليهم مكث ما لا يسكر إن انفرد ، ولا يتعجل إسكاره إذا اجتمع . فهذه دلائل النصوص والظواهر من السنن والآثار . فأما دلائل ما يوجبه الاعتبار من المعاني والعلل ، فمن وجوه : منها : الاشتقاق : وهو أن الخمر سمي خمرا لأحد وجهين : إما لأنه خامر العقل ، أي : غطاه . وهو قول عمر . أو لأنه يخمر ، أي : يغطي ، ومن أيهما اشتق فهو في النبيذ ، كوجوده في الخمر ، فوجب أن يشترك في الاسم : ولذلك قالوا لمن بقيت فيه نشوة السكر : مخمورا . اشتقاقا من اسم الخمر ، سواء كان سكره من نبيذ أو خمر من غير فرق ، ولو افترقا في الاسم لافترقا في الصفة ، فقيل له في نشوة النبيذ : منبوذا . كما قيل له في نشوة الخمر : مخمورا . فإن قيل : فهذا معارض بمثله ، لأنهم قالوا : في خل العنب : خل الخمر ، ولم يقولوا في خل التمر : خل الخمر . فإن دل ما نص على اشتراكهما في الاسم ، دل هذا على افتراقهما فيه . قيل : هذه التسمية مجاز ، وليست بحقيقة يستمر فيها قياس ، ويصح فيها اشتقاق : ولأن خل العنب لا يسمى خمرا ، وإن حدث عن العنب ، كما لا يسمى التمر نبيذا ، وإن حدث عن التمر . ولو كان لهذه العلة سمي خمر العنب : خل الخمر لوجب بهذه العلة أن يسمى خل التمر خل النبيذ . وفي فساد هذا التعليل بطلان هذا التعارض . ومنها المعنى : وهو أن الخمر مختص بمعنيين ، صفة بخله : وهي الشدة المطربة . وتأثير يحدث عنه : وهو السكر يثبت بها اسم الخمر وتحريمه ، ويزول بارتفاعها اسم الخمر وتحريمه : لأنه إذا كان عصيرا ليس فيه شدة ، ولا يحدث عنه إسكار ، ولم ينطلق عليه اسم الخمر ، ولم يجر عليه حكمه في التحريم ، وإذا حدثت فيه الشدة المطربة ، وصار مسكرا انطلق عليه اسم الخمر ، وجرى عليه حكمه في التحريم . فإذا ارتفعت الشدة وزال عنه الإسكار ، ارتفع عنه اسم الخمر ، وزال عنه حكم التحريم ، فدل على تعلق الاسم والحكم بالصفة والتأثير دون الجنس ، وقد وجدت صفة الشدة وتأثير السكر في النبيذ ، فوجب أن يتعلق به اسم الخمر وحكمه في التحريم : ولأن ما زالت عنه الشدة لم يختلف باختلاف أجناسه ، كذلك ما جلبته الشدة لم يختلف باختلاف أجناسه . [ ص: 399 ] فإن قيل : فلو كان كذلك لوجب أن يكون كل حامض خلا : لأنا نراه خلا إذا حدثت فيه الحموضة ، وغير خل إذا ارتفعت عنه الحموضة . فإن لم يكن كل حامض خلا ، لم يكن كل مسكر خمرا . قيل : صحة التعليل موقوف على اطراده ، وهو في الخمر مطرد ، فصح . وفي الخل غير مطرد ، فبطل . ومنها : أنه لما كان قليل الخمر مثل كثيره ، وجب أن يكون قليل النبيذ مثل كثيره : لأنهما قد اجتمعا في حكم الكثير فوجب أن يستويا في حكم القليل . وتحريره قياسا : أنه شراب مسكر فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره كالخمر . فإن قيل : لا يصح اعتبار القليل بالكثير في التحريم : لأن كثير السقمونيا وما أشبهه من الأدوية حرام ، وقليله غير حرام . قيل : لأن تحريم السقمونيا لضرر هو موجود في الكثير دون القليل ، وتحريم الخمر لشدته ، وهي موجودة في الكثير والقليل . فإن منعوا من التعليل فقد تقدم الدليل ، ثم يقال : لما لم يمنع هذا من التسوية بين قليل الخمر وكثيره لم يمنع من التسوية بين قليل النبيذ وكثيره . ومنها أن دواعي الحرام يتعلق بها حكم التحريم لأن تحريم المسبب يوجب تحريم السبب ، وشرب المسكر يدعو إلى السكر ، وشرب القليل يدعو إلى شرب الكثير ، فوجب أن يحرم المسكر لتحريم السكر ويحرم القليل لتحريم الكثير . فإن منعوا من هذا بقبلة الصائم تدعو إلى الوطء ، ولا تحرم عليه لتحريم الوطء . قيل : إذا دعت إلى الوطء حرمت . وإنما يباح منها ما لم يدع إلى الوطء . ومنها : أن أبا حنيفة علق على طبخ الأشربة حكمين متضادين ، فجعله محلا للحرام ، ومحرما للحلال : لأنه يقول : إذا طبخ الخمر حل ، وإذا طبخ النبيذ حرم . وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه علق عليه حكمين متضادين . والثاني : أنه جعل له تأثيرا في التحليل والتحريم ، ومعلوم أن ما حل من لحم الجمل لم يحرم بالطبخ ، وما حرم من لحم الخنزير لم يحل بالطبخ ، فوجب إسقاط تأثيره . وقد ثبت أن نيء الخمر حرام ، فكذلك مطبوخه ، وأن مطبوخ النبيذ حرام ، فكذلك نيئه . [ ص: 400 ] ومنها : أن تأثير الشمس في الأشربة كتأثير الطبخ ، وإن كانت أبطأ ، ثم ثبت أن الاعتبار بالشمس حدوث الشدة ، وجب أن يكون الاعتبار بالطبخ حدوث الشدة : لأنهما لما استويا في التأثير ، وجب أن يستويا في الحكم . ومنها : ما احتج به الشافعي عليهم في كتاب الأشربة من " الأم " فقال لهم : ما تقولون إذا شرب أقداحا فلم يسكر . قالوا : حلال . قال : فإن خرج إلى الهواء فضربته الريح فسكر . قالوا : يكون حراما . قال : يا عجبا ينزل الشراب إلى جوفه حلالا ، ويصير بالريح حراما . قالوا : يكون التحريم مراعى . قيل لهم : إنما يكون مراعى مع بقائه : لأن المراعى موقوف والموقوف ممنوع ، والممنوع محرم ، وأن ما راعيتموه بعد شربه أبحتموه مشكوكا فيه ، والشك يمنع من الإباحة ، وغررتم به في إباحة ما تحرمونه عليه ، وما أفضى إلى هذا كان حراما . ومنها : ما احتج به المزني عليهم : أن جميع الأشربة إذا كانت حلوة فهي حلال ، ولا يختلف حكمها باختلاف أجناسها ، فإذا حمضت وصارت خلا فهي حلال ، ولا يختلف حكمها باختلاف أجناسها وجب إذا اشتدت وأسكرت أن يكون حكمها واحدا ، ولا يختلف حكمها باختلاف أجناسها ، فلما لم يحل جميعها وجب أن يحرم جميعها . ولما لم يحل قليلها وكثيرها وجب أن يحرم قليلها وكثيرها . ومنها : أن الخمر قد اختلفت أسماؤها ولم يختلف حكمها ، والنبيذ قد اختلفت أسماؤه ولم يختلف حكمه . فمن أسماء الخمر : العقار ، سميت به لأنها تعاقر الإناء ، أي : تقيم فيه . ومن أسمائها : المدام : لأنها تدوم في الإناء . ومن أسمائها : القهوة وسميت به : لأنها تقهي عن الطعام ، أي : يقطع شهوته . ومن أسمائها السلاف : وهو الذي يخرج من عينه بغير اعتصار ، ولها غير ذلك من الأسماء . ومن أسماء النبيذ : السكر سمي بذلك : لأنه يسكر ، وهو الذي لم يطبخ . ومن أسمائه : الباذق ، وهو المطبوخ . ومن أسمائه : الفضيخ ، وهو من البسر ، سمي بذلك : لافتضاخ البسر منه . ويسميه أهل البصرة العري . ومنه البتع من العسل لأهل اليمن ومنه المزر ، وهو من الذرة لأهل الحبشة . [ ص: 401 ] ومنه : المزاء : وهو من أشربة أهل الشام . ومنه : السكر : وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار . ومنه : السكركة : وهو من الأرز لأهل الحبشة . ومنه : الجعة : وهو من الشعير . ومنه الضعف : وهو من عنب شرخ ، كالفضيخ من البسر يترك في أوعيته حتى يغلي . ومنه الخليطان : وهو ما جمع فيه بين بسر وعنب ، أو بين تمر وزبيب . ومنه المغذى استخرج لعبد الملك بن مروان بالشام من ماء الرمان وماء العنب . ومنه ما يتغير بالطبخ ، فمنه : المنصف : وهو ما ذهب بالنار نصفه وبقي نصفه . ومنه : المثلث : وهو ما ذهب ثلثه ، وبقي ثلثاه . ومنه : الكلا : وهو ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . ومنه الجهوري : وهو ما يجمد ، فإذا أريد شربه حل بالماء والنار ، وعليه يسميه أهل فارس البحتح . إلى غير ذلك من الأسماء التي لا تحصى ، فلما اختلفت أسماء الخمر واتفقت أحكامها للاشتراك في معنى الشدة ، واختلفت أسماء النبيذ ، واتفقت أحكامه مع الشدة ، وجب إذا اختلف اسم الخمر والنبيذ أن تتفق أحكامها : لأجل الشدة ، وهذا الاستدلال في سائر اختلاف الأسماء ، وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي ، وتأثير ذلك أن من أطلق على النبيذ اسم الخمر حرمه بالنص ، ومن لم يطلق عليه اسم الخمر حرمه بالقياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية