الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فأما الجواب ، عن قوله تعالى : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن اختلاف أهل العلم في تأويل السكر على ما قدمناه ، يمنع من الاحتجاج ببعضه : لأن فيه سبعة أقاويل :

أحدها : أنه الخمر ، قاله الحسن وعطاء .

والثاني : أنه النبيذ ، قاله ابن عباس .

والثالث : أنه ما طاب ولم يسكر ، قاله مجاهد .

والرابع : أنه المسكر ، وهو الظاهر .

والخامس : أنه الحرام ، قاله ابن قتيبة .

والسادس : أنه الطعام ، قاله أبو عبيدة .

والسابع : أنه الخل .

ومع اختلاف هذا التأويل لن يصح في أحدها دليل ، ويجوز أن يحمل على العموم في أسماء السكر المذكورة : لأن أصحابنا قد اختلفوا في الاسم المشترك . [ ص: 402 ] إذا لم يقترن به ما يدل على أحدهم ، هل يجوز حمله على عمومها ؟ فذهب أكثرهم إلى جواز حمله على عموم الأعيان المشتركة في اسم اللون والعين ، كما يجوز حمله على عموم الأجناس المتماثلة في قوله تعالى : الزانية والزاني [ النور : 2 ] والسارق والسارقة [ المائدة : 38 ] في حمله على كل زان وسارق . وقال بعضهم : لا يجوز حمله على عموم الأعيان ، وإن جاز حمله على عموم الأجناس لتغاير الأعيان وتماثل الأجناس .

قال آخرون منهم : يجوز حمله على عموم الأعيان والأجناس إذا دخلهما الألف واللام في العين واللون ، وفي الزاني والسارق لا يجوز حملها على العموم مع حذف الألف واللام ، إذا قيل : اقطع سارقا ، واجلد زانيا فهذا واجب .

والثاني : أنه محمول على ما قبل التحريم : استعمالا للنصين فيه .

والثالث : أنها إخبار من الله تعالى عن اتخاذه دون إباحته : لأنه قال : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، فكأنه قال : تتخذون منه حراما وحلالا .

وأما الجواب عن حديث ابن عباس : " حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب " فمن خمسة أوجه :

أحدها : أن راويه عبد الله بن شداد ، ولم يلق ابن عباس : فكان منقطعا لا يلزم العمل به .

والثاني : أنه رواه موقوفا على ابن عباس غير مسند عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن فيه حجة .

والثالث : أن الرواية : " والمسكر من كل شراب " ، فمنها الراوي ، فأسقط المسكر منها ، فروى : " والسكر من كل شراب " .

والرابع : أنه لو كانت الرواية السكر ، لكان المراد به المسكر : لأن السكر ليس من فعل الشارب فينهى عنه ، وإنما شرب المسكر فعله ، فصار النهي متوجها إليه .

الخامس : أن تحريم السكر في هذا الخبر لا يمنع من تحريم المسكر فيما رويناه من الأخبار ، فيحرم السكر والمسكر جميعا ، وتكون أخبارنا أولى من وجهين :

أحدهما : أنها أعم حكما : لأن تحريم المسكر يوجب تحريم السكر ، وتحريم السكر لا يوجب تحريم المسكر .

والثاني : أن السكر محرم بالعقل : لاستقباحه فيه ، والمسكر محرم بالشرع : لزيادته على مقتضى العقل .

[ ص: 403 ] وأما الجواب عن حديث أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب في طوافه من السقاية نبيذا فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه حديث ضعيف ، تفرد بروايته يحيى بن يمان ، عن سفيان الثوري ، ولم يتابعه عليه أحد من أصحاب سفيان ، وقد سئل سفيان عن المزر ، فقال : ذلك شراب الفاسقين .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يستحل قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها .

والثاني : أن نبيذ السقاية كان غير مسكر : لأنه كان يصنع للحجاج إذا صدروا من منى لطواف الإفاضة ، ليستطيبوا به شرب ماء زمزم وكان ثقيلا ، لا يستسقى أكثر من يومين أو ثلاثة ، وذلك غير مسكر .

فإن قيل : فقد قطب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شربه فدعى بماء فصبه عليه ، فدل على أنه كان نبيذا مشتدا . قيل : الجواب يجوز أن يكون قد قطب لحموضته ، وصب عليه الماء لغلظته .

وأما الجواب الثالث : أن نبيذ السقاية كان نقع الزبيب ، غير مطبوخ ، وهو إذا أسكر حرم عند أبي حنيفة ، فلم يصح له حمله عليه ، وبطل استدلاله به .

وأما الجواب عن حديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان ينبذ له إلى ثلاث فيشربه ثم يسقيه الخدم ثم يهراق . هو أنه كان يشربه ويسقيه الخدم إذا لم يشتد ثم يهراق إذا اشتد : لأن النبيذ لا يشتد لثلاث حتى تطول مدته ، ولذلك كان يأمر بإراقة ما نش .

كذلك الجواب عن حديث أبي مسعود البدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح النبيذ مع ضعفه عند أصحاب الحديث .

وكذلك الجواب عن حديث عبد الله بن الديلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " انبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم " .

وأما الجواب عن قوله : اشربوا ولا تسكروا فمن وجهين :

أحدهما أنه حديث ضعيف ، تفرد به أبو الأحوص ، ووهن فيه ، وقد روي في الصحيحين اشربوا ولا تشربوا مسكرا .

والثاني : أن السكر ليس من فعل الشارب ، فيتوجه النهي إليه ، فلم يجز حمله عليه . وأما الجواب عن حديث عمر : " إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء " فمن وجهين :

أحدهما : أنه ضعيف : لأن راويه عبد الملك ابن أخي القعقاع وهو ضعيف . [ ص: 404 ] والثاني : أن اغتلامها هو تغيرها ، إما إلى حموضة أو قوة ، وليس في واحد منها سكر ، ولذلك كسرت بالماء لتزول حموضتها أو قوتها .

وأما الجواب عن حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل السكران أشربت خمرا ؟ قال : لا شربت الخليطين . فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه حديث ضعيف لا يعرف إسناده ، ولا يحفظ لفظه ، فلم يثبت به حكم .

الثاني : أنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيه جواب من إباحة ولا حظر .

والثالث : أن الإمساك منه لا يمنع من استعمال قوله : " كل مسكر حرام " .

وأما الجواب عن حديث عبد الله بن مسعود : " شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله ، فحفظت ونسيتم " . فمن وجهين :

أحدهما : أن من أحل النبيذ لم يعترف بتحريمه قبله ، ومن حرمه لم يدع إحلاله بعده ، فلم يكن فيه دليل .

والثاني : أن المراد به النهي عن الأوعية ، قد روى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأوعية إلا وعاء بوكاء .

وما قدمناه من النهي عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ، وأباح ما يوكأ من أوعية الأديم ، ثم اختلف أصحابه عن النهي في هذه الظروف بعد تحريم المسكر ، هل نسخ أم لا ؟ فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعائشة وعبد الله بن عمر وأبو هريرة إلى بقائها على التحريم فيما لم تسكر ، وقال عمر : لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر .

وقال أبو هريرة : " اجتنبوا الحناتم والنقير " . وقالت عائشة رضي الله عنها : أشرب في سقا ثلاث على خمسة . أي : يشد . وذهب عبد الله بن مسعود وجمهور الصحابة إلى إباحتها فيما لم يسكر . ونسخ تحريمها ، وهو الصحيح : لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الظروف لا تحرم شيئا فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا .

وقد روى محارب بن دثار ، عن أبي بريدة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نهيتكم عن ثلاث ، وأنا آمركم بهن : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن زيارتها تذكرة . ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلا في ظرف الأدم ، فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا . ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا . [ ص: 405 ] وتأثير نسخ الشرب في هذه الأوعية في الكراهة دون التحريم ، فمن ذهب إلى أنها منسوخة كره أن يشرب منها إلا ما يسكر ، ومن قال : هي منسوخة . لم يكره شرب ما لا يسكر منها ، وهو مذهب الشافعي في الجديد ، والأول مذهبه في القديم .

وأما الجواب عن آثار الصحابة رضي الله عنهم فقد روينا عنهم ما يخالفه . وهو أصح إسنادا ، وأشبه بأفعالهم وتشددهم في دين الله ، واجتناب محظوراته ، وشرب عمر من إداوة حد شاربها ، فلأن عمر شرب قبل إسكارها ، وشرب الرجل بعد إسكارها . وما ذكره من شرب ابن أبي ليلى عند علي ، فلا يجوز أن يحكى مثله .

وأما الجواب عن استدلالهم بالمعاني : بأنه لما انتفى عن النبيذ حكم الخمر في تكفير مستحله ، انتفى عنه حكم الخمر في الاسم والتحريم ، فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ليس المراد إذا افترقا في حكم يجب أن يفترقا في كل حكم . ألا ترى أنهما قد استويا في تحريم الكثير وافترقا عنده في تحريم اليسير ، ولم يكن الفرق في اليسير مانعا من التساوي في الكثير . كذلك لا يكون افتراقهما في التكفير موجبا لافتراقهما في التحريم .

والثاني : أنه ليس يمتنع أن يقع التساوي في التحريم مع الافتراق في التكفير . ألا ترى أن الكبائر والصغائر يستويان في التحريم ويفترقان في التكفير ، فيكفر باستحلال الكبائر ولا يكفر باستحلال الصغائر ، كذلك الخمر والنبيذ لا يمنع افتراقهما في التكفير استواءهما في التحريم .

والثالث : أنه ليس التكفير علة التحريم ، حتى يستدل بزوال التكفير في استحلال النبيذ على إباحته ، كما دل التكفير في استباحة الخمر على تحريمه ، وإنما العلة في التكفير ارتفاع الشبهة عما استحل من الحرام ، وهذا موجود في الخمر ، معدوم في النبيذ كما يقول أبو حنيفة : إن النبيذ النيء محرم ، ولا يكفر مستحله .

والجواب على أن ما عمت به البلوى يجب أن يكون مستفيضا : فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الاستفاضة يجب أن تكون في البيان لا في النقل ، وقد استفاض البيان : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديه فنادى به ، وقد أخبر أبو طلحة بالنداء وهو على شراب ، فأمر أنسا بإراقته .

والثاني : أن النقل والبيان معا مستفيضان ، وإنما وقع الخلاف في التأويل في البيان .

والثالث : أن بيانه مأخوذ من نص الكتاب في قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . [ ص: 406 ] فأخر بيان الكتاب عن الاستفاضة في بيان السنة .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن تحريم ما ثبت تحليله نسخ ، والنسخ لا يصح إلا بالنص المستفيض المتواتر : فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تحريم النبيذ ابتداء شرع ، وليس بنسخ : لأنهم كانوا في صدر الإسلام مستدرجين لاستباحتها من قبل ، فجاء الشرع بتحريمها ، وما هذه سبيله يجوز إثبات حكمه بأخبار الآحاد .

كما نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ويجوز إثباته بالقياس كما جاز إثبات الربا في الأرز قياسا على البر .

والثاني : أنه لو كان نسخا ، لكان مأخوذا من تحريم الخمر في القرآن ، وهو نص مستفيض .

والثالث : أنه لا يمتنع ، وإن لم يدخل في آية الخمر ، أن ينسخ بما يستفيض بيانه ، وإن لم يستفض نقله ، كما حولت القبلة إلى الكعبة وأهل قباء في الصلاة إلى بيت المقدس . فأتاهم من أخبرهم بنسخها وتحويلها إلى الكعبة فاستداروا إليها وعملوا على قوله واحد .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما عمت به البلوى يجب أن يعم بيانه ، فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن هذا أصل مختلف فيه ، فلا نسلمه . ويجوز أن يكون بيان ما يعم به البلوى خاصا من أخبار الآحاد ، كما أن تحريم الكلام في الصلاة ما يعم به البلوى ، وهو من أخبار الآحاد .

والثاني : أنه لما كان ملحقا بالخمر صار إما داخلا في اسمه فهو نص ، وإما أن يكون مشاركا له في المعنى فهو فرع لأصل عم بيانه ، فصار بيان الفرع عاما كأصله .

والثالث : أنه لما كان يمنع هذا من تحريم النبيذ التي عنده ، لم يمنع من تحريم المطبوخ عندنا .

وأما الجواب عن استدلاله بأن النبيذ بالمدينة أكثر ، وهم إلى بيان تحريمه أحوج : فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن من جعل النبيذ داخلا في اسم الخمر فقد جعل العموم مشتملا عليهما ، وهو أصح وجهي أصحابنا ، فزال به الاستدلال .

والثاني : أن بيان تحريمها لم يكن مقصورا على أهل المدينة ، بل هو لجميع الخلق . ولئن كان النبيذ بالمدينة أكثر من الخمر ، فإن الخمر بالشام وفارس أكثر من [ ص: 407 ] النبيذ . والبعيد أحوج إلى عموم البيان من القريب .

والثالث : أن في تحريم القليل تنبيها على الكثير ، فجاز الاقتصار عليه .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه : فمن وجهين :

أحدهما : أنه لما حرم السكر ، وإن لم يغن عنه بمباح من جنسه جاز أن يحرم المسكر ، وإن لم يغن عنه بمباح من جنسه .

والثاني : أن الله تعالى قد أباح من جنسه ما لا يسكر ، فأغنى عن المسكر .

وأما الجواب عن استدلالهم بالترغيب بها في الجنة : فمن وجهين :

أحدهما : أنهم قد عرفوا لذتها قبل التحريم ، فاستغنوا بها عن المعرفة بعد التحريم .

والثاني : أن خمر الجنة غير مسكر : لأن الله تعالى قد وصفها بأن لا غول فيها ولا تأثيم . أي : لا تغتال عقولهم بالسكر ، ولا يأثمون بارتكاب الحظر ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية