الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو عزر الإمام رجلا فمات ، فالدية على عاقلته ، والكفارة في ماله " .

قال الماوردي : أما التعزير : فتأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود . والكلام فيه مشتمل على فصلين :

أحدهما : في صفته .

والثاني : في حكمه .

فأما صفته : فتختلف باختلاف الذنب ، واختلاف فاعله ، فيوافق الحدود في اختلافه باختلاف الذنوب . ويخالف الحدود في الفاعل ، فيختلف التعزير باختلاف الفاعل ، فيكون تعزير ذي الهيئة أخف من تعزير ذي السفاهة .

ويستوي في الحدود ذو الهيئة وذو السفاهة : لأن الحدود نصوص فاستوى الكافة فيها . والتعزير اجتهاد في الاستصلاح ، فاختلف الناس فيه باختلاف أحوالهم .

روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تجافوا لذوي الهيئات عن عثراتهم .

وإذا كان كذلك نزل التعزير باختلاف الذنوب واختلاف فاعليها ، على أربع مراتب :

فالمرتبة الأولى : التعزير بالكلام .

والمرتبة الثانية : التعزير بالحبس .

والمرتبة الثالثة : التعزير بالنفي .

ثم المرتبة الرابعة : التعزير بالضرب ، يندرج ذلك في الناس حسب منازلهم . فيكون تعزير من جل قدره بالإعراض عنه . وتعزير من دونه بالتعنيف له . وتعزير من [ ص: 425 ] دونه بزواجر الكلام . وغايته الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب . ثم يعدل عن ذلك إلى المرتبة الثانية ، وهو الحبس ينزلون فيه على حسب منازلهم ، وبحسب ذنوبهم . فمنهم من يحبس يوما ، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية غير مقدرة ، بقدر ما يؤدي الاجتهاد إليها ، ويرى المصلحة فيها .

وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي يتقدر غايته بشهر للاستبراء والكشف ، وبستة أشهر للتأديب والتقويم . ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الرتبة الثالثة ، وهي النفي والإبعاد . وهذا والحبس فيمن تعدت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها ، واستضراره بها ، واختلف في غاية نفيه وإبعاده .

فظاهر مذهب الشافعي : أنه يقدر الأكثر بما دون السنة ولو بيوم : لئلا يصير مساويا لتغريب السنة في الزنا .

وظاهر مذهب مالك : أنه يجوز أن يزاد فيه على السنة ، بما يرى أسباب الاستقامة ، ثم يعدل عن دون ذلك إلى الضرب ، ينزلون فيه على حسب ذنوبهم .

واختلف في أكثر ما ينتهي إليه ضرب التعزير .

فمذهب الشافعي : أن أكثره في الحر تسعة وثلاثون ، وفي العبد تسعة عشرة ، ينتقص لينقص عن أقل الحدود في الخمر ، وهو أربعون في الحر ، وعشرون في العبد .

وقال أبو حنيفة : أكثره تسعة وثلاثون في الحر والعبد .

وقال مالك : لا حد لأكثره ، ويجوز أن يزيد على أكثر الحدود .

وقال أبو عبد الله الزبيري : تعزير كل ذنب مستنبط من المشروع في جنسه ، فأعلاه فيمن تعرض لشرب الخمر تسعة وثلاثون : لأن حد الخمر أربعون . وأعلاه فيمن يعرض بالزنا خمسة وسبعون : لأن حد القذف ثمانون ، ثم جعله معتبرا باختلاف الأسباب في التعريض بالزنا ، فإن وجده ينال منها ما دون الفرج ضربه أكثر للتعزير وهو خمسة وسبعون سوطا ، وإن وجدا عريانين في إزار قد تضاما أنهما لا حائل بينهما ، ضربا ستين سوطا .

فإن وجدا عريانين في إزار غير متضامين : ضربا خمسين سوطا ، وإن وجدا في بيت مبتذلين قد كشفا سوءاتهما ضربا أربعين سوطا ، وإن وجدا فيه مستوري السوءة ضربا ثلاثين سوطا ، وإن وجدا في طريق متحادثين بفجورهما ضربا عشرين سوطا ، وإن وجدا فيه يشير كل واحد منهما إلى الآخر بالريبة ضربا عشرة أسواط .

وإن وجدا فيه وكل واحد منهما يتبع صاحبه ضربا خفقات ، على غير هذا فيما عداه . [ ص: 426 ] وقال أبو يوسف : أكثر التعزير خمسة وسبعون من غير تفصيل ولا استنباط من ذنوب الحدود .

وما قاله الشافعي : أظهر لأمرين :

أحدهما : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من بلغ بما ليس بحد حدا ، فهو من المعتدين .

والثاني : أنه أقل ما قيل فيه . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنب المؤمن حمى .

وأما إشهار المعزر في الناس فجائز إذا أدى الاجتهاد إليه : ليكون زيادة في نكال التعزير ، وأن يجرد من ثيابه إلا قدر ما يستر عورته ، وينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه ، ولم يقلع عنه . ويجوز أن يحلق شعر رأسه ، ولا يجوز أن يحلق شعر لحيته . واختلف في جواز تسويد وجهه على وجهين :

يجوز أحدهما ، ويمنع منه في الآخر . ويجوز أن يصلب في التعزير حيا : قد صلب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على جبل يقال له أبو ناب ، ولا يمنع إذا صلب من طعام وشراب ، ولا يمنع من الوضوء للصلاة ، ويصلي مومئا ، ويعيد إذا أرسل ، ولا يتجاوز صلبه أكثر من ثلاثة أيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية