الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

وأما حكم التعزير فهو مخالف لحكم الحدود من وجهين :

أحدهما : في الوجوب والإباحة .

والثاني : في حدوث التلف عنه .

فأما الحكم الأول في الوجوب والإباحة : فالتعزير مباح يجوز العفو عنه ، والحدود واجبة لا يجوز العفو عنها .

وقال أبو حنيفة : إن كان لا يرتدع بغير التعزير ، وجب تعزيره ولم يجز العفو عنه ، وإن كان يرتدع بغيره كان على خيار الإمام في تعزيره والعفو عنه .

ودليلنا : ما روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اعدل يا رسول الله . فقال : لقد شقيت إن لم أعدل ولم يعزره ، وإن كان ما قاله يقتضيه ، وحكم بين الزبير ورجل من الأنصار في شرب بينهما ، فقال للزبير : اسق أنت ثم أرسل الماء إليه . فقال الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ابن عمتك ، أي : قدمته لقرابته لا بحقه فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال للزبير : احبس الماء في أرضك إلى الكعبين . [ ص: 427 ] وفيه أنزل الله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] ولم يعزره وإن كان ما قاله يقتضيه .

ولأن التعزير تأديب ، فأشبه تأديب الأب والمعلم ، ولذلك قال عثمان ، وعبد الرحمن ، لعمر رضي الله عنهم في إجهاض المرأة : لا شيء عليك ، إنما أنت معلم .

فإذا صح جواز العفو عنه ، فهو ضربان :

أحدهما : ما تعلق بحق الله تعالى .

والثاني : ما تعلق بحقوق الآدميين .

فأما المتعلق بحقوق الله تعالى : فكالتعزير بأسباب الزنا والسرقة وشرب الخمر ، فللإمام أن ينفرد بالعفو عنه إذا رأى ذلك صلاحا له ، وله أن يستوفيه ويكون موقوفا على خياره في الصلح .

وأما المتعلق بحقوق الآدميين : فكالمواثبة والمشاتمة ، ففيه حق للمشتوم والمضروب ، وحق الإمام في التقويم والتهذيب ، فلا يصح العفو عن التعزير فيه إلا باجتماعهما عليه . فإن عفا الإمام عنه لم يسقط حق المضروب منه ، وكان له المطالبة به . وإن عفا عنه المضروب والمشتوم نظر في عفوه ، فإن كان بعد الترافع إلى الإمام لم يسقط حق الإمام فيه ، وإن كان له أن ينفرد بتعزيره إلا أن يعفو عنه .

وإن كان قبل الترافع إلى الإمام ، ففي سقوط حق الإمام منه وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي عبيد الله الزبيري قد سقط حقه منه ، وليس له التعزير فيه ، كالعفو عن حد القذف يمنع الإمام من استيفائه .

والوجه الثاني : وهو أظهر لا يسقط حق الإمام منه : لأن التقويم فيه من حقوق المصالح العامة ، فلو تشاتما ، وتواثب والد مع ولده ، سقط تعزير الوالد في حق ولده ، ولم يسقط تعزير الولد في حق والده : لأن الوالد لا يحد لولده ، ويحد الولد لوالده . ولا يسقط حق الإمام في تعزير كل واحد منهما ، فيكون تعزير الوالد مختصا بالإمام مشتركا بين الوالد والإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية