الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإن نوى السفر فلا يقصر حتى يفارق المنازل إن كان حضريا ، ويفارق موضعه إن كان بدويا " .

قال الماوردي : وهو كما قال .

إذا نوى سفرا يقصر في مثله الصلاة ، فليس له أن يقصر في بلده بمجرد النية قبل إنشاء السفر ، وهو قول كافة الفقهاء .

قال عطاء ، والأسود ، والحارث بن أبي ربيعة : إذا نوى السفر جاز له القصر في منزله بمجرد النية . قالوا : لأنه لما صار مقيما بمجرد النية من غير فعل ، وهذا خطأ .

والدلالة على فساده قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] .

فأباح الله تعالى القصر للضارب في الأرض ، والمقيم لا يسمى ضاربا .

وروى الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة ، فأتم ، وصلى العصر بذي الحليفة فقصر .

ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم النية لسفره قبل الزوال ، ثم أتم الظهر لأنه صلاها قبل خروجه .

ولأنه لما وجب عليه الإتمام إذا دخل بنيان بلده عند قدومه من سفره إجماعا وجب أن لا يجوز له القصر في ابتداء خروجه قبل مفارقة بنيان بلده حجاجا .

[ ص: 369 ] ولأن الله تعالى أباح القصر في السفر ، والسفر مشتق من الأسفار ، وهو الخروج عن الوطن ، وقيل : بل سمي سفرا لأنه يسفر عن أخلاق السفر ، والمقيم في بلده وإن خرج عن منزله لا يسمى مسافرا : لأن المقيم قد يخرج من منزله للتصرف في أشغاله ، وإن لم ينو سفرا ، فكذلك إذا انتقل من أحد طرفي البلد إلى الطرف الآخر لم يسم مسافرا ، لأنه قد نسب إلى البلد بالمقام في الطرف الذي انتقل إليه كما ينسب إليه بالمقام في الطرف الذي انتقل عنه ، وإذا لم ينطلق اسم السفر عليه قبل مفارقة بلده لم يجز له القصر لعدم الشرط المبيح له .

فأما ما ذكره من أنه قد يصير مقيما بمجرد النية ، فغلط بل هما متفقان في المعنى ، لأنه لا بد من الإقامة من الفعل مع النية ، وهو اللبث : لأنه لو كان سائرا ماشيا ، أو راكبا ، أو في سفينة ، ونوى الإقامة كانت النية لغوا ، وجاز له القصر حتى ينوي الإقامة مع اللبث ، فكذلك في السفر . فإذا تقرر أنه لا يجوز له القصر قبل مفارقة بلده ، فإن كان بلده ذا سور ففارق سوره ، أو لم يكن له سور ففارق آخر بنيانه ، وإن قل جاز له القصر .

وقال مجاهد : إن كان سفره نهارا لم يقصر حتى يدخل الليل ، وإن كان ليلا لم يقصر حتى يدخل النهار ، والدلالة على فساد هذا القول مع ما تقدم ذكره ، ما روي عن أيوب بن موسى ، عن سعيد بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة بالعقيق إذا خرج من المدينة إلى مكة ، ويقصر بذي طوى إذا خرج من مكة إلى المدينة .

فإذا ثبت جواز القصر بعد مفارقة البنيان فلا يخلو حال المسافر من أحد أمرين : إما أن يكون حضريا ، أو بدويا .

فأما الحضري فإن كان يسكن بلدا ، أو قرية لم يقصر إلا بعد مفارقة بنيانه والخروج ، والفرق بين اتصال البنيان بالعمران وبين اتصاله بالخراب لأن بين جامع البصرة ، ومربدها والعقيق خرابات دارسة قد غطى سربها وكل من حواه سورها مقيم بالبصرة ومنسوب إليها . فإذا خرج من سور البلد جاز له القصر . وإن اتصل سور البلد ببنيان البساتين كمن خرج من البصرة من درب سليمان جاز له القصر ، وإن كانت بنيان البساتين متصلا بالسور ، [ ص: 370 ] لأن هذه البنيان لم تبن للاستيطان ، وإنما بنيت للانتفاع ، والارتفاق فهي كـ " أرض البساتين " ، وإنما يكون مقيما إذا كان في بنيان يلبث فيه للاستيطان أهل البلد .

فأما إذا كان في قرية متصلة بقرية أخرى . فإن كان بين القريتين انفصال ، ولو كذراع جاز له القصر إذا فارق بنيان قريته ، وإن لم يكن بينهما انفصال ، واتصل بنيان أحدهما بالآخر لم يجز له القصر حتى يفارق منازل القريتين ، لأنهما بالاتصال كالبلد الجامع لقبيلتين .

فأما أهل البساتين ، ومكان القصور كساكني دجلة ، والبصرة ، وأنهارها الذين لا يجمعهم بلد ، ولا تضمهم قرية ، وإنما يستوطنون قصور البساتين فلهم القصر إذا فارقوا الموضع المعروف بينهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية