الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وما أصاب أهل الردة من المسلمين في حال الردة وبعد إظهار التوبة في قتال وهم ممتنعون ، أو غير قتال ، أو على نائرة ، أو غيرها سواء والحكم [ ص: 446 ] عليهم كالحكم على المسلمين لا يختلف في القود والعقل وضمان ما يصيبون . ( قال المزني ) : هذا خلاف قوله في باب قتال أهل البغي . ( قال الشافعي ) : فإن قيل : فما صنع أبو بكر في أهل الردة ؟ قيل : قال لقوم جاءوه تائبين : تدون قتلانا ، ولا ندي قتلاكم . فقال عمر : لا نأخذ لقتلانا دية . فإن قيل : فما قوله : تدون ؟ قيل : إن كانوا يصيبون غير متعمدين ودوا ، وإذا ضمنوا الدية في قتل غير عمد كان عليهم القصاص في قتلهم متعمدين . وهذا خلاف حكم أهل الحرب عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإن قيل : فلا نعلم منهم أحدا أقيد بأحد . قيل : ولا يثبت عليه قتل أحد بشهادة ، ولو ثبت لم نعلم حاكما أبطل لولي دما طلبه ، والردة لا تدفع عنهم قودا ولا عقلا ، ولا تزيدهم خيرا إن لم تزدهم شرا . ( قال المزني ) : هذا عندي أقيس من قوله في كتاب قتال أهل البغي يطرح ذلك كله : لأن حكم أهل الردة أن نردهم إلى حكم الإسلام ، ولا يرقون ولا يغنمون كأهل الحرب ، فكذلك يقاد منهم ويضمنون " .

قال الماوردي : أما ما أتلفه المرتدون وأهل البغي على المسلمين من دم ومال وهم في غير منعة ، فمضمون عليهم بالقود في الدماء ، والغرم في الأموال . وما أتلفوه وهم في منعة والمنعة : أن لا يقدر الإمام عليه حتى يستعد لقتالهم ففي ضمانه على أهل البغي قولان مضيا في قتال أهل البغي .

فأما ضمانه على أهل الردة : فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ، وأبي حامد الإسفراييني ، وأكثر البغداديين أن في وجوب ضمانه عليهم قولين كأهل البغي سواء .

والوجه الثاني : وهو قول أبي حامد المروزي ، وأبي القاسم الصيمري ، وأكثر البصريين أنه مضمون عليه قولا واحدا ، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني . وإن كان ضمان أهل البغي على قولين الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن لأهل البغي تأويلا محتملا ، وليس لأهل الردة تأويل محتمل .

والثاني : أن لأهل البغي إماما تنفذ أحكامه ، وليس لأهل الردة إمام تنفذ أحكامه .

فإن قيل : بسقوط ضمانه عنهم وهو محكي عن الشافعي في سير الأوزاعي فوجهه : قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأهل الردة : تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا نأخذ لقتلانا دية . فسكت أبو بكر رضا بقوله ، ورجوعا إليه : لأنه عمل عليه . ولأن طليحة قتل في ردته عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ، وفيهما يقول طليحة الأسدي حين قتلهما : [ ص: 447 ]

عشية غادرت ابن أقرم ثاويا وعكاشة الغنمي تحت مجال     أقمت له صدر الجمالة إنها
معودة قبل الكماة نزال     فيوما تراها في الجلال مصونة
ويوما تراها في ظلال عوال

ثم أسلم ، فلم يؤخذ بدم واحد منهما ، ولأنه إسلام عن كفر فوجب أن يمنع ضمان ما استهلك في الكفر ، كأهل الحرب ، ولأن في تضمينهم ما استهلكوه تنفيرا لهم عن الإسلام وهم مرغبون فيه ، فوجب أن لا يؤخذوا بما يمنعهم من الدخول فيه . وإذا قيل بوجوب الضمان عليهم وهو الصحيح المنصوص عليه في أكثر الكتب فوجهه : قول أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة : تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم .

فإن قيل : فقد عارضه عمر ، فقال : لا نأخذ لقتلانا دية . قيل : يحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه قال ذلك تفضلا عليهم كعفو الأولياء ، فلم يكن فيه مخالفا لحكم أبي بكر . فإن قيل : فقد عمل بقوله : لأنه لم يقتص منهم ولم يغرمهم .

قيل : القصاص والغرم حق لغيره ولم يأته مطالب بحقه منه فمنعه ، فلم يكن في الشرك إسقاط للوجوب . ومن الاعتبار : أن كل من ضمن ما أتلفه ، إذا لم يكن في منعة ضمن ، وإن كان في منعة كالمسلم طردا والحربي عكسا ، ولأن الردة إن لم تزده شرا ، لم تفده خيرا ، وهو يضمن قبل الردة ، فكان ضمانه بعدها أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية