الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 466 ] باب الضمان على البهائم

قال الشافعي : " أخبرنا مالك ، عن الزهري ، عن حرام بن سعد بن محيصة ، أن ناقة للبراء دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى عليه السلام أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها . ( قال الشافعي ) رحمه الله : والضمان على البهائم وجهان : أحدهما : ما أفسدت من الزرع بالليل ضمنه أهلها ، وما أفسدت بالنهار لم يضمنوه " .

قال الماوردي : هذا الباب مقصور على جنايات البهائم المضمونة على أربابها ، بعد ما تقدم من جنايات الآدميين المضمونة عليهم ، وهي ضربان :

أحدهما : أن تكون سارحة في مراعيها وهي مسألة الكتاب فتعدل من مراعيها إلى زروع ترعاها ، وأشجار تفسدها ، أو تفسد ثمرها ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون معها أربابها ، فيضمنوا ما أفسدته ليلا ونهارا : لأن فعل البهيمة إذا كانت مع صاحبها منسوب إليه ، وإذا لم يكن معها منسوب إليها ، كالكلب إذا أرسله صاحبه أكل ما صاده ، وإذا استرسل بنفسه لم يؤكل .

والضرب الثاني : أن تنفرد البهائم عن أربابها ، ولا يكونوا معها ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن ينسب أربابها إلى التفريط : لإرسالهم لها فيما لا يستبيحون رعيه ، أو فيما يضيق عن كفاياتهم ، كحريم الأنهار وطرق الضباع ، فعليهم ضمان ما أفسدته ليلا ونهارا : لأن التفريط عدوان يوجب الضمان .

والضرب الثاني : أن لا ينسب أربابها إلى التفريط : لإرسالهم لها نهارا في موات يتسع لها ، وحبسها ليلا في مراحها وعطنها ، فذهب الشافعي أنه لا ضمان عليهم فيما رعته نهارا ، وعليهم ضمان ما رعته ليلا ، وفرق بين رعي الليل والنهار بالسنة والاعتبار .

[ ص: 467 ] وسوى أبو حنيفة بين رعي الليل والنهار ، ولم يفرق بينهما ، واختلف أصحابه في مذهبه الذي سوى فيه بين الليل والنهار ، فحكى البغداديون منهم عنه : سقوط الضمان في الزمانين . وحكى الخراسانيون عنه : وجوب الضمان في الزمانين .

واستدل من ذهب إلى سقوط الضمان فيهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم : العجماء جبار .

وروي : جرح العجماء جبار .

والعجماء : البهيمة . والجبار : الهدر الذي لا يضمن . ولأن ما سقط ضمانه نهارا سقط ضمانه ليلا ، كالودائع طردا والغصوب عكسا .

واستدل من ذهب إلى وجوب الضمان في الزمانين بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ولأن ما وجب ضمانه ليلا وجب ضمانه نهارا ، كالغصوب طردا والودائع عكسا .

ودليلنا على الفرق بين الزمانين في وجوب الضمان ليلا وسقوطه نهارا : سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما ورد به التنزيل في قصة داود وسليمان ، قال الله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 - 79 ] وفي الحرث الذي حكما فيه قولان :

أحدهما : أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلا ، قاله قتادة ، وهو الأشبه بلفظ الحرث .

والثاني : أنه كرم وقعت فيه الغنم ، قاله ابن مسعود ، وهو أشهر في النقل .

إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] والنفش : رعي الليل . والهمل : رعي النهار . قاله قتادة . فدل على أن القضاء كان في رعي الليل دون النهار .

وكنا لحكمهم شاهدين [ الأنبياء : 78 ] يعني : حكم داود وحكم سليمان ، والذي حكم به داود على ما ورد به النقل وإن لم يدل القرآن عليه ، أنه جعل الغنم ملكا لصاحب الحرث عوضا عن فساده ، وكان سليمان عليه السلام حاضر الحكمة ، فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الكرم : لينتفع بها ، ويدفع الكرم إلى صاحب الغنم : ليعمره ، فإذا عاد إلى ما كان عليه رده على صاحبه واسترجع غنمه ، فصوب الله تعالى حكم سليمان وبين خطأ داود فقال : ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 79 ] فرد داود حكمه ، وأمضى حكم سليمان ، ثم قال تعالى : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه آتى كل واحد منهما حكما وعلما في وجوب ذلك الضمان ليلا ، وإن اختلفا في صفته : لأنهما اتفقا على وجوب الضمان ، وإن اختلفا في الصفة .

[ ص: 468 ] والثاني : معناه أن خص كل واحد منهما بعلم أفرده به دون الآخر ، فصار كل واحد منهما قد أوتي حكما وعلما .

فإن قيل : فكيف نقض داود حكمه باجتهاد غيره ؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنه ذكر الحكم ولم يمضه ، حتى بان له صواب ما حكم به سليمان فعدل إليه ، وحكم به . وهذا جائز .

والثاني : أن الله تعالى صوب قضاء سليمان ، فصار نصا ، وحكم ما خالف النص مردود .

والدليل من هذه الآية على من سوى بين الليل والنهار . وفي سقوط الضمان نص صريح : لأن الله تعالى قد أوجبه في رعي الغنم في الليل . وعلى من سوى بينهما في وجوب الضمان من طريق التنبيه : لأنه حكم على صفة تقتضي انتفاء عند عدمها ، ثم جاءت السنة بنص صريح في الفرق بين الليل والنهار ، وهو الحديث المتقدم في صدر الكتاب رواه الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت ، فإن قيل : حرام بن سعد لا صحبة له ، فكان مرسلا .

قيل . قد رواه الشافعي مسندا ، عن أيوب بن سويد ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن حرام بن سعد بن محيصة ، عن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية دخلت حائط قوم ، فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضمان على أهلها . فقد رواه الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، مرسلا ، ورواه الشافعي ، عن أيوب ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، مسندا فتأكد . وهو نص صريح في وجوب الضمان بالليل ، وسقوطه بالنهار لا تأويل فيه بصرفه عن ظاهر نصه ، ثم الفرق بين الليل والنهار من طريق المعنى من وجهين :

أحدهما : أن المواشي والزروع مرصدان لطلب الفضل فيهما ، واستمداد الرزق منهما ، والفضل في المواشي بإرسالها نهارا في مراعيها ، فسقط حفظها فيه . والفضل في الزروع بعمل أهلها نهارا فيها ، فوجب عليهم حفظها فيه .

والثاني : أن الليل زمان النوم والدعة ، فلزم أرباب المواشي فيه حفظها في أفنيتهم ومساكنهم ، وسقط فيه عن أرباب الزروع حفظها لإيوائهم فيه إلى مساكنهم ، فثبت بهذين حفظ الزروع على أهلها في النهار دون الليل ، وحفظ المواشي على أهلها [ ص: 469 ] بالليل دون النهار ، فلذلك صار رعي النهار هدرا : لوجوب الحفظ فيه على أرباب الزروع ، ورعي الليل مضمونا بالوجوب : للحفظ فيه على أرباب المواشي .

والدليل من القياس على من سوى بين الليل والنهار ، في وجوب الضمان : أن النهار زمان لا ينسب أرباب المواشي فيه إلى التفريط ، فوجب أن يسقط عنهم ضمان ما أفسدته قياسا على غير الزروع .

والدليل على من سوى بين الليل والنهار ، في سقوط الضمان : أن الليل زمان ينسب أرباب المواشي فيه إلى التفريط ، فوجب أن يلزمهم الضمان ما أفسدت ، قياسا على غير الزروع .

والدليل من القياس على الفريقين : أنها بهائم أفسدت مالا فوجب أن يكون الضمان معتبرا بجهة التفريط قياسا على غير الزروع من سائر الأموال .

فأما جواب من أسقط الضمان لقوله العجماء جبار فمن وجهين :

أحدهما : أن الرواية : " جرح العجماء " ، والجرح لا يكون في رعي الزروع .

والثاني : أنه محمول على رعي النهار .

والجواب عن قياسهم على رعي النهار : فالمعنى في النهار عدم التفريط ، وفي الليل وجود التفريط فافترقا . وأما جواب من أوجب الضمان لقوله : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " ، فهو أنه ليس استعماله في حفظ أموال أرباب الزروع بأولى من استعماله في حفظ أموال أرباب المواشي ، فسقط الاستدلال به لتكافؤ الأمرين فيه .

وأما الجواب عن قياسهم على رعي الليل ، فالمعنى في الليل وجود التفريط ، وفي النهار عدمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية