الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : ولما دنا مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبب إليه الخلوة في غار حراء ، فكان يؤتى بطعامه وشرابه فيأكل منه ، ويطعم المساكين ، حتى ظهرت علامات نبوته واختلف فيها ، فحكي عن الشعبي ، وداود بن عامر أن الله تعالى قرن إسرافيل بنبوة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة سنين ، يسمع حسه ولا يرى شخصه ، ويعلمه الشيء بعد الشيء ، ولا ينزل عليه القرآن ، فلما مضت ثلاثة سنين قرن لنبوته جبريل - عليه السلام - فنزل عليه القرآن .

وروى عروة بن الزبير ، عن أبي ذر الغفاري قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول نبوته فقال : " يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة ، فوقع أحدهما في الأرض ، والآخر بين السماء والأرض ، فقال أحدهما لصاحبه أهو هو ؟ قال : هو هو ، قال : فزنه برجل من أمته فوزنت برجل فرجحته ، ثم قال : زنه بعشرة ، فوزنت بعشرة فوزنتهم ، ثم قال : زنه بمائة ، فوزنني بمائة فرجحتهم ، ثم قال : زنه بألف فوزنني فرجحتهم ، فجعلوا ينتشرون علي من كفة الميزان قال : فقال : أحدهما للآخر : لو وزنته بأمته لرجحها ، ثم قال أحدهما لصاحبه : شق بطنه ، فشق بطني ، ثم قال : شق قلبه فشق قلبي ، فأخرج منه مغمز الشيطان ، وعلق الدم ، ثم قال : اغسل بطنه غسل الإناء ، واغسل قلبه غسل الملاءة ، ثم دعي بالسكينة كأنها وجه هرة ، فأدخلت قلبي ، ثم قال : خط بطنه ، فخاطا بطني وجعلا الخاتم بين كتفي فما هو إلا أن وليا عني ، فكأنما أعاين الأمر معاينة . فكان هذا مقدمة نبوته ، وهذا قول ثان .

وقالت عائشة رضي الله عنها : أول ما ابتدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة تجيء مثل فلق الصبح حتى نزل عليه جبريل .

[ ص: 8 ] فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزل عليه جبريل أنه قال : فغتني غتة وقال : اقرأ قلت وما أقرأ ؟ قال : فغتني ثانية ، وقال : اقرأ . قلت : وما أقرأ ؟ قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 1 ، 2 ] .

وهذا قول ثالث ، وليس في هذه الروايات الثلاث تعارض يمنع بعضها عن بعض ، والله أعلم بصحة ذلك في اجتماع وانفراد .

ولما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حراء ، ودخل على خديجة وحدثها ما كان ، وقال لها : إني أخاف أن يكون قد عرض لي ، فقالت : كلا ما كان ربك يفعل ذلك بك ، وأتت خديجة إلى " ورقة بن نوفل " وكان ابن عمها ، وخرج في طلب الدين وتنصر وقرأ التوراة ، والإنجيل ، وسمع ما في الكتب ، فأخبرته بما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى ، ولئن كنت صادقة فإن زوجك محمدا نبي هذه الأمة ، وليلقين من أمته شدة : فإنه ما بعث نبي إلا عودي ، ولئن عشت له لأؤمنن به ، ولأنصرنه نصرا مؤزرا .

فكانت هذه الحال الثانية من أحوال نبوته ، ولم يؤمر فيها بإنذار ، ولا رسالة .

ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عاد إلى منزله قال لخديجة : دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروه ، فنزل عليه جبريل - عليه السلام - وقال : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، وأنزل عليه : ياأيها المدثر قم فأنذر إلى قوله : والرجز فاهجر [ المدثر ]

فكانت هذه الحال الثالثة التي تمت بها نبوته ، وتحققت بها رسالته ، وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر رمضان ، وهو ابن أربعين سنة في قول الأكثرين ، وفي قول فريق : ابن ثلاث وأربعين .

قال هشام بن محمد : أول ما تلقاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالة الله يوم الاثنين .

وروى أبو قتادة عن عمر بن الخطاب قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الاثنين فقال : ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه النبوة .

واختلفوا في أي اثنين كان من شهر رمضان .

فقال أبو قلابة : كان في الثاني عشر من شهر رمضان ، وقال أبو الخلد : كان في الرابع والعشرين منه .

[ ص: 9 ] ثم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بما نزل عليه فقالت له : يا ابن عم ، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي أتاك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فأخبرني به إذا جاءك ، فجاء له جبريل ، فقال لها : يا خديجة هذا جبريل قد جاءني . قالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى : فجلس عليها ، فقالت : هل تراه ؟ قال نعم . قالت : تحول إلى فخذي اليمنى ، فتحول إليها ، فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم . قالت : فتحول في حجري ، فتحول في حجرها فقالت هل تراه ؟ قال : نعم . فتحسرت ، وألقت خمارها وهو جالس في حجرها ، فقالت هل تراه ؟ قال لا . فقالت : يا ابن عم اثبت ، وأبشر ، فوالله إنه لملك ، وما هو بشيطان ، وآمنت به ، فكانت أول من أسلم من جميع الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية