الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ غزوة بدر الكبرى ]

ثم غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بدر الكبرى .

وسببها أن عير قريش التي خرج بسببها إلى ذي العشيرة ففاتته ، أقبلت عائدة من الشام ، فيها أموال قريش ، وعليها أبو سفيان بن حرب ، فأنفذ طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد : ليعودوا بخبرها ، فلما تأخرا عنه ، خرج بعدها بعشرة أيام في يوم السبت الثاني عشر من شهر رمضان بعد تسعة عشر شهرا من هجرته ، وعسكر في بئر أبي عتبة على ميل من المدينة حتى عرض أصحابه ، وكانوا في رواية ابن إسحاق ثلاثمائة رجل ، وثلاثة عشر رجلا عدة أصحاب طالوت حين عبر النهر لقتال جالوت .

وفي رواية الواقدي ثلاثمائة وخمسة رجال ضم إليهم في القسم ثمانية لم يشهدوا بدرا ، فصارت الروايتان متفقتين : لأن ابن إسحاق عد الثمانية فيهم ، والواقدي لم يعدها فيهم ، ومن الثمانية ثلاثة من المهاجرين عثمان بن عفان أقام لمرض زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبضت قبل مقدمه من بدر ، وطلحة ، وسعيد ، أنفذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاستعلام حال العير . وخمسة من الأنصار ، وهم أبو لبابة بن عبد المنذر خلفه على المدينة ، وعاصم بن عدي خلفه على أهل العالية ، والحارث بن حاطب رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم ، الحارث بن الصمة أسر بالروحاء ، وخوات بن جبير كسر .

ورد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استعرض أصحابه خمسة لصغرهم وهم : عبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، والبراء بن عازب ، وأسيد بن ظهير ، وكان عدة المهاجرين سبعة وسبعين رجلا ، وعدة الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا ، منهم من [ ص: 27 ] الأوس أحد وستون رجلا والباقون من الخزرج ، وكانت أول غزوة غزا فيها الأنصار ، وكانت إبلهم سبعين بعيرا ، يتعقب الثلاثة على البعير ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ، وأبو لبابة على بعير ، وكانت الخيل فرسين : أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان صاحب راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وعرف أبو سفيان خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأخذ العير ، فاستنفر قريشا : لحماية العير فخرجت قبائل قريش كلها إلا بني عدي فلم يخرج أحد منهم ، وبنو زهرة حرضوا فلما نجت العير عادوا مع الأخنس بن شريق ، وكانوا مائة رجل ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ولما فاتت العير ، وكان خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجلها ، لا للقتال ليقوى المسلمون بمالها على الجهاد ، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج بهم فقال : اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، اللهم إنهم عراة فاكسهم ، اللهم إنهم جياع فأشبعهم .

فسمع الله دعوته ، فما رجع منهم رجل إلا بحمل ، أو حملين واكتسوا ، وشبعوا ، ولم يكن المسلمون قد تأهبوا للقاء العدو ، وعاد من كان عينا عليهم فأخبر بمن فيهم من أشراف قريش ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا فيهم مائة فارس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ، فماذا تأمرون ؟ فإن الله قد أراني مصارع القوم ؟ فقال له المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون ، فأعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستشارة فقال له سعد : يا رسول الله كأنك تريد الأنصار قال : أجل . قال : قد آمنا بك فصدقناك وبايعناك على السمع والطاعة ، فامض لم أردت ، فوالله لو استعرضت بنا البحر وخضته لخضناه ، فسر بنا على بركة الله ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي قريشا ببدر : فأظفره الله بهم ، وذلك في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان ، وقيل : في الثامن عشر ، فقتل منهم سبعون رجلا ، فيهم أشرافهم ، وأسر منهم سبعون رجلا ، وغنمت أموالهم ، وقتل من المسلمين أربعة عشر رجلا منهم من المهاجرين ومن الأنصار ثمانية ، وأحيزت الغنائم فاختلفوا فيها : فجعلها الله تعالى [ ص: 28 ] خالصة لرسوله وفيها نزل قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله [ الأنفال : 1 ] .

قال عبادة بن الصامت : فينا أصحاب بدر نزلت هذه الآية حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله منا ، وجعله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين على سواء ، ونفل بالنفل حتى خرج من مضيق ، ونزل على سير فقسمه بها ، وأنفل فيها سيفه ذا الفقار وكان لمنبه بن الحجاج ، وجمل أبي جهل ، وكان مهريا ، يغزو عليه ، وقتل بها من الأسرى النضر بن الحارث ، قتله علي بن أبي طالب ، ولما بلغ عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط فقال : من للصبية يا محمد قال : النار ، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، وسار بالأسرى ، حتى وصل المدينة فخرج أهلها يهنئونه بقدومه ، ودخل من ثنية الوداع في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر رمضان ، فتلقاه الولائد بالدفوف وهن يقلن :


طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

وقال لأصحابه : استوصوا بالأسارى خيرا ، ثم استشار أصحابه فيهم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هم أهلك ، وعشيرتك ، فاستبقهم ، وخذ الفداء منهم قوة ، فلعل الله أن يهديهم فيكونوا عضدا ، وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك ، وهم قادتهم وصناديدهم ، قدمهم فاضرب أعناقهم حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل ، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، ثم خرج عليهم فقال : إن الله ليلين قلوب الرجال حتى تكون ألين من اللبن ، وليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [ إبراهيم : 36 ] . ومثلك مثل عيسى قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ المائدة : 118 ] . ومثلك يا عمر مثل نوح قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . ومثلك مثل موسى قال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 88 ] . ثم قال : أنتم اليوم عالة ، فخذوا الفداء ، ففودي كل أسير بأربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف ، إلى ألفين ، إلى ألف ، ومن لم يكن له مال - وكان يحسن الكتابة : لأن الخط كان في أهل مكة ، ولم يكن في أهل المدينة - كان فداؤه أن يعلم عشرة من غلمان المدينة الخط ، وكان زيد بن ثابت فيمن علم ، ومن على من سواهم ، وفيهم أبو عزة الجمحي فشرط عليه أن لا يعود لحربه أبدا ، وكان في الأسرى العباس بن عبد المطلب ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : افد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا فقال : إني مسلم وأخرجت كرها ، ولا [ ص: 29 ] مال لي ، فقال : إن كنت مسلما فأجرك على الله ، ومالك عند أم الفضل دفعته لها يوم خروجك ، ووصيت به لأولادك ، فقال : إن الله ليزيدنا بك بيانا ، وفدا نفسه وابني أخيه بمائة وثلاثين أوقية ورقا ، وكان في الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن أخت خديجة : فلذلك تزوجها ، وكانت رقية زوجة عتبة بن أبي لهب فقالت قريش لهما : انزلا عن ابنتي محمد نزوجكما بمن أحببتما من نساء قريش ، فنزل عتبة بن أبي لهب عن رقية وتزوجت عثمان بن عفان ، وامتنع أبو العاص بن الربيع من النزول عن زينب ، فلما أسر أنفذت زينب في فدائه قلادة لها جهزتها خديجة بها ، فرآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفها ، فرق لها ، وقال لأصحابه : إن رأيتم أن تمنوا على أسيرها فمنوا عليه وشرط عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخلي سبيلها ، وأنفذ زيد بن حارثة إلى مكة ، حتى حملها إلى المدينة ، وأسلم أبو العاص بن الربيع ، فرد عليه زينب .

قال ابن عباس : " بعد ست سنين بالنكاح الأول ، فلم يحدث شيئا " ، وهذه الرواية إن صحت عن ابن عباس ، وقد كان الإسلام فرق بينهما ، يحتمل أن يريد بقوله : " بالنكاح الأول " أي لأجل النكاح الأول : لأنه لولاه لعدل إلى غيره من السابقين الأولين .

وقوله : " ولم يحدث شيئا " أي لم يحدث صداقا زائدا ، فلما أخذ المسلمون فداء أسرى بدر عاتب الله تعالى رسوله عليه فقال : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ الأنفال : 67 ] . ومات أبو لهب بمكة : لأنه تأخر عن بدر بعد سبع ليال من نعي أهل بدر بالغرسة ، وترك ليلتين حتى أنتن هربا من عدواها ، وخضع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر جميع المنافقين واليهود .

التالي السابق


الخدمات العلمية