الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 49 ] فصل : [ غزوة الحديبية ]

ثم غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الحديبية ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا أصحابه إلى العمرة فتهيئوا وأسرعوا ، فدخل بيته ، فاغتسل ، ولبس ثوبين ، وركب راحلته القصوى ، وخرج في يوم الاثنين هلال ذي القعدة في ألف وستمائة .

وقيل : ألف وأربعمائة ، ومعه زوجته أم سلمة ، وصلى الظهر بذي الحليفة ، وساق سبعين بدنة منها جمل أبي جهل الذي غنمه يوم بدر ، فحللها وأشعرها في الشق الأيمن وقلدها ، وهن موجهات إلى القبلة ، ثم أحرم بالعمرة ، ولبى وقدم أمامه عباد بن بشر في عشرين فارسا من المهاجرين والأنصار طليعة ، وبلغ قريشا مسيره ، فأجمعوا رأيهم على صده عن المسجد الحرام ، وعسكروا ببلدح ، وقدموا خالد بن الوليد في مائتي فارس إلى كراع الغميم ، فوقف عباد بن بشر في خيله بإزائه ، وحانت صلاة الظهر فصلاها بأصحابه في عسفان ، صلاة الأمن وحانت صلاة العصر ، وقربت خيل خالد بن الوليد ، فصلى العصر بأصحابه صلاة الخوف ، ثم صار إلى الحديبية حتى دنا منها ، وهي طرف الحرم على سبعة أميال من مكة ، فبركت ناقته القصواء فزجروها ، فأبت أن تنبعث فقالوا : خلأت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : رجعت ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل ، أما والله لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة لله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها ، فقامت ، فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمد من ثماد الحديبية قليل الماء ، فانتزع سيفا من كنانته ، فأمر به ، فغرس فيها ، فجاشت لهم بالرواء حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر ، ومطروا بالحديبية حتى كثرت المياه ، وجاءه بديل بن ورقاء في ركب من خزاعة ، وقال : قد جئناك من عند قومك وإنهم جمعوا لك من أطاعهم ، وأقسموا بالله أنهم لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد ضفراءهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما جئنا لقتال ، وإنما جئنا للطواف بهذا البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ولم يكن مع أصحابه سلاح إلا سيوف المسافرين في أغمادها ، فعاد بديل بن ورقاء إلى قريش ، فأخبرهم بذلك : فبعثوا عروة بن مسعود [ ص: 50 ] الثقفي ، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك ، وبعث عثمان بن عفان بعد أن بعث قبله خراش بن أمية الكعبي ، وأمره أن ينبئ قريشا أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت ، ومعنا هدي ننحره ، وننصرف ، فأتاهم عثمان ، وأخبرهم بذلك ، فقالوا : لا كان هذا أبدا ، ولا يدخلها في هذا العام ، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قتل فبايع أصحابه بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وبايع لعثمان بشماله على يمينه ، وجعلت الرسل تختلف حتى أجمعوا على الصلح والموادعة ، فبعثوا سهيل بن عمرو في عدة من رجالهم لعقد الصلح ومعه عثمان بن عفان ، فكتب بينه وبينهم : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض على أنه لا أسلال ولا أغلال ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده دخل ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل ، وأنه من أتى منهم محمدا بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتاهم من أصحاب محمد لم يردوه ، وأن محمدا يرجع في عامه هذا بأصحابه ، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القرب .

شهد أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، ومحمد بن مسلمة ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص ، وكتب علي بن أبي طالب صدر هذا الكتاب ، وكتب علي نسختين إحداهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخرى مع سهيل بن عمرو ، وتواثبت خزاعة ، فقالوا : نحن ندخل في عهد محمد وعقده وتواثبت بنو بكر ، وقالوا : نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم ، وخرج أبو جندل بن سهيل بن عمرو من مكة يجعل في قيده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل : هذا أول من أقاضيك عليه فرده إليه ، وقال لأبي جندل : قد تم الصلح بيننا وبين القوم ، فاصبر حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا ، وانطلق سهيل ، فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه ، وحلق شعره ، حلقه خراش بن أمية الكعبي ، وحلق بعض أصحابه وقصر بعضهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا ، فقيل : والمقصرين يا رسول الله ، فقال في الرابعة : والمقصرين ، وأقام بالحديبية بضع عشرة يوما .

وقيل : عشرين يوما فلما بلغ كراع الغميم نزل عليه : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ الفتح : 1 ] . فقرأها على الناس ، فقال رجل : أوفتح هو ؟ قال إي والذي نفسي بيده ، إنه لفتح فهنأه المسلمون ، وهنأ بعضهم بعضا ، وذكر جابر أن عطشا أصابهم ، فأتي [ ص: 51 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتور فيه ماء ، فوضع يده فيه : فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ، كأنها العيون حتى ارتوى جميع الناس ، وسميت هذه السنة عام الحديبية : لأنها أعظم ما كان فيها ، وكان أبرك عام وأيمن صلح ، فإنه أسلم فيه من الناس أكثر من جميع من أسلم من قبل ، وقرئ في عقد هذا الصلح ثلاثة أشياء :

أحدها : أن جماعة الصحابة كرهوه حتى قال عمر بن الخطاب لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " ألست رسول الله ؟ قال : بلى . قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : وأنا عبد الله ورسوله ، ولن أخالف أمره . فكان عمر يقول : ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي ، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي .

والثاني : أنه لما كانت الصحيفة ابتدأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو نعرف الله ، وما نعرف الرحمن الرحيم ، فكتب سهيل باسمك اللهم على ما كانوا عليه في الجاهلية ، وكتب هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل : لو علمنا أنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نازعناك ، فقال لعلي : اكتب محمد بن عبد الله ، فقال : يا رسول الله ، لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة ، فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، وقال لعلي : إنك ستسام إلى مثلها فتجيب ، فكان ما دعي إليه في التحكيم في محو اسمه من إمارة المؤمنين .

والثالث : أنه لما أمر أصحابه بالنحر والحلق ، توقفوا ، فدخل على أم سلمة ، وشكى ذلك إليها ، فقالت : ابتدئ أنت بالنحر والحلق ، فإنهم سيتبعونك ، ففعل ذلك ، وفعلوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية