الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ غزوة تبوك ]

ثم غزوة تبوك إلى الروم في رجب .

وسببها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن الروم قد اجتمعت مع هرقل ، وانضم إليها من العرب لخم وجذام وعاملة وغسان ، وعزموا على المسيرة ، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء : فندب الناس إلى الخروج ، وأعلمهم أنه يتوجه لحرب الروم ، وكان عادته أن يواري إذا أراد الخروج إلى وجه إلا في هذه الغزوة ، فإنه صرح بحاله لبعد المسافة ، والحاجة إلى كثرة العدد ، وبعث إلى أهل مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم ، وحث على الصدقات فحملت إليه ، وأنفق عثمان بن عفان فيها مالا عظيما ، وكان الناس في عزة من المال وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وكان وقت الثمار والميل إلى الظلال ، فشق على الناس الخروج على مثل هذه الحال في مثل هذه الجهة ، فعصم الله أهل طاعته حتى أجابوا .

وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الخميس ، وكان يحب الخروج فيه فعسكر بثنية الوداع ، وخرج عبد الله بن أبي ابن سلول في المنافقين ، وفي أحلافه من اليهود فعسكروا بنفيل بثنية الوداع ، ولم يكن عسكره بأقل العسكرين ، وتأخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصناف : منهم المنافقون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، وكانوا يثبطون الناس وقالوا : لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا [ التوبة : 81 ] . واستأذنوا في القعود ، فأذن لهم : منهم الجد بن قيس ، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعلك تحتقب بعض بنات الأصفر فقال : لا تفتني بهن ، فأنزل الله تعالى : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا [ التوبة : 29 ] .

وصنف منهم المعذرون وكانوا اثنين وثمانين رجلا ، ذكروا أعذارا واستأذنوا في القعود ، فأذن لهم ، ولم يعذرهم .

[ ص: 82 ] وصنف منهم البكاءون : وهم سبعة : سالم بن عمير ، وعلبة بن زيد ، وسلمة بن صخر ، والعرباض بن سارية ، وعبد الله بن المغفل ، ومعقل بن يسار ، وعمرو بن حمام أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحملونه فقال : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ التوبة : 92 ] . فنزلت فيه هذه الآية .

وصنف منهم متخلفون بغير شك ولا ارتياب وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، تخلفوا بالمدينة إلى أن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها واقترن بهم اثنان تأخرا في الطريق ، ثم لحقا به أبو ذر الغفاري ، وأبو خيثمة السالمي ، فأما أبو خيثمة فإنه رجع إلى أهله فوجد امرأتين له ، قد صنعتا له طعاما ورشت كل واحدة منهما عريشها ، فذكر ما فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحر ، وما هو فيه من الكن ، فحلف لا يقيم حتى يلحق به فأدركه ، وقد سار إلى تبوك ، وهو نازل بها فقال الناس : يا رسول الله هذا راكب على الطريق ، فقال : كن أبا خيثمة فقالوا : هو والله أبو خثيمة ، فلما أناخ أقبل فسلم عليه ، وأخبره بخبره ، فدعا له وقال فيه خيرا .

وأما أبو ذر : فإن بعيره بعد السير أبطأ به ، فتأخر عن الناس ، فذكر تأخيره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم فلما لم ينهض به البعير حمل متاعه على ظهره وسار تبع الآثار ، فلما دنا من الناس ، قالوا : يا رسول الله هذا رجل يمشي وحده ، فقال : كن أبا ذر ، فقالوا : هو والله أبو ذر فقال : يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده .

فلما نزل أبو ذر الربذة وحضرته الوفاة ، ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه وصاهما أن يغسلاه ويكفناه ، ويضعاه على قارعة الطريق ، فأول ركب يمر قولا له : هذا أبو ذر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعينونا على دفنه ، ففعلا ذلك ووضعاه على قارعة الطريق ، فأقبلعبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عمارا فقام إليهم الغلام فقال : هذا أبو ذر فأعينونا على دفنه ، فاستهل عبد الله بن مسعود باكيا وقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك . فكان هذا وما تقدم من أمر أبي خيثمة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - .

ولما أزمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير من معسكره بثنية الوداع استخلف محمد بن مسلمة على المدينة ، واستخلف علي بن أبي طالب على أهله ، واستخلف أبا بكر على الصلاة بالناس في معسكره ، وصار في ثلاثين ألفا ، وفيهم عشرة آلاف فرس ورجع عبد [ ص: 83 ] الله بن أبي ابن سلول فيمن معه من المنافقين واليهود ، وسار في عسرة من الظهر كان الرجلان والثلاثة على بعير ، وفي عسرة من النفقة ، وفي عسرة من الماء ، فظهر من معجزاته في هذا المسير أنه مر بالحجر فنزلها ، واستقى الناس من مائها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تشربوه ولا تتوضأوا منه ، ومن عجن به عجينا فلا يأكله ، ويعلفه بعيره ولا يخرج أحد منكم الليلة إلا معه صاحب له ، ففعلوا ما أمرهم به إلا رجلين خرج أحدهما وحده لحاجته ، وخرج الآخر لطلب بعيره ، فأما الخارج لحاجته فخنق على مذهبه ، وأما الخارج لطلب بعيره ، فاحتملته الريح حتى طرحته على جبل طيئ فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : ألم أنهكم أن يخرج رجل منكم إلا ومعه صاحبه ودعا للذي أصيب على مذهبه فشفي ، وأما الواقع على جبل طيئ فإن طيئا أهدته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم إلى المدينة .

فلما أصبح الناس وساروا ولا ماء معهم عطشوا ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا الله تعالى ، فأرسل سحابة أمطرت ، فارتوى الناس واحتملوا حاجتهم منه ، وضلت راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب أصحابه في طلبها ، فقال بعض المنافقين وهو زيد بن اللصيب أليس يزعم محمد أنه نبي يخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : وإني والله لا أعلم إلا إن أعلمني الله ، وقد دلني الله عليها ، وهي في الوادي في الشعب الفلاني قد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوا بها ، فانطلقوا فوجدوها كذلك ، فأتوه بها ، وسار حتى نزل تبوك ، فلما استقر بها أتاه ابن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على أيلة ، وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية ، وكتب لهم كتابا .

وبعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بدومة الجندل ، وهو أكيدر بن عبد الملك من كندة وهو ملك عليها نصراني ، فصار إليه خالد في أربعمائة وعشرين فارسا . وقال لخالد : إنك ستجده يصيد البقر فلما دنا خالد أقبلت البقر تطيف بحصن أكيدر فلما رآها في ليلة مقمرة نزل إليها مع أخيه حسان في جماعة من أهلها : ليصيدها فأدركته خيل خالد ، فقتل حسان ، وأسر أكيدر ، وأجاره على دمه حتى يأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أتاه حقن دمه ، وكان خالد قد أجاره من القتل على فتح الحصن ، وصالحه على عمله بألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع عزل منه الخمس والصفي ، وقسم باقيه بين الغانمين فكان السهم خمس فرائض ، وبذل الجزية : فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها ، ورده إلى موضعه ، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ، وهرقل بحمص ، ثم انصرف عن تبوك ، ولم يلق كيدا ، وقدم المدينة في شهر رمضان ، ولما نزل قبل دخول المدينة بذي أوان ، وبينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أهل مسجد الضرار حين مر [ ص: 84 ] بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مسيره إلى تبوك سألوه أن يصلي بهم فامتنع وقال : حتى نرجع إن شاء الله ، وهم اثنا عشر رجلا ، اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ، كما حكاه الله عنهم في كتابه ، فأنفذ من ذي أوان مالك بن الدخشم ، وعاصم بن عدي حتى أضرما في مسجد الضرار نارا ، ودخل المدينة فأتاه المنافقون يحلفون ويعتذرون ، فصفح عنهم ، وإن كان الله تعالى لم يعذرهم ، ونهى عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا ، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فامتنع المسلمون من كلامهم ، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليه أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، ثم تاب عليهم بعد أن اعتزلهم الناس ، واعتزلوا الناس ، وقبلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما كانوا عليه من صحة الإيمان ونفي الارتياب .

وكانت هذه غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ المسلمون في قدومهم منها في بيع أسلحتهم ، وقالوا : قد آن قطع الجهاد ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال .

[ ص: 85 ] بسم الله الرحمن الرحيم

التالي السابق


الخدمات العلمية