الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 94 ] [ وصايا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ]

أما وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروى ابن أبي عون ، عن ابن مسعود قال : نعى لنا نبينا نفسه قبل موته بشهر ، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة ، وقال : مرحبا بكم حياكم الله بالسلام ، رحمكم الله ، حفظكم الله ، جبركم الله ، رزقكم الله ، وقاكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلف عليكم ، وأحذركم الله ، إني لكم منه نذير مبين ، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده ، فإنه قال لي ولكم : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 83 ] ، وقال : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ العنكبوت : 68 ] قلنا : يا رسول الله ، متى أجلك ؟ قال : دنا الفراق ، والمنقلب إلى الله ، وإلى جنة المأوى ، وإلى سدرة المنتهى ، وإلى الرفيق الأعلى قلنا : يا رسول الله : من يغسلك ؟ قال : رجال من أهلي الأدنى فالأدنى ، قلنا : يا رسول الله ، ففيم نكفنك ؟ قال في ثيابي هذه إن شئتم ، أو ثياب حضر أو حلة يمانية ، قلنا : يا رسول الله من يصلي عليك ؟ وبكينا وبكى فقال : مهلا رحمكم الله ، وجزاكم عن نبيكم خيرا ، إذا أنتم غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري هذا على شفير قبري ، في بيتي هذا ، ثم اخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي علي حبيبي وخليلي جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ثم ملك الموت معه جنود من الملائكة ، ثم ادخلوا علي فوجا فوجا . فصلوا علي وسلموا تسليما ، ولا تؤذونني بباكية ، واقرءوا السلام على من غاب من أصحابي ، واقرءوا السلام على من تبعني على ديني من قومي هذا إلى يوم القيامة .

وروى أنس بن مالك قال : كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يغرغر بنفسه ، الصلاة وما ملكت أيمانكم .

وروى عمر بن عبد العزيز قال : كان آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب .

وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاث وهو يقول : ألا لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله .

[ ص: 95 ] ودخل الفضل بن العباس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فقال : يا فضل ، شد هذه العصابة على رأسي ، ونهض على يده حتى دخل المسجد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم ، وإنما أنا بشر ، فأيما رجل أصبت من عرضه شيئا فهذا عرضي فليقتص ، وأيما رجل أصبت من بشره شيئا فهذا بشري فليقتص ، وأيما رجل أصبت من ماله شيئا فهذا مالي فليأخذ ، واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء فأخذه أو حللني ، فلقيت ربي وأنا محلل ، ولا يقولن رجل : إني أخاف العداوة والشحناء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهما ليسا من طبيعتي ولا خلقي ، فقام رجل فقال : يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم فقال : أما أنا فلا أكذب قائلا ، ولا مستحلفه على يمين ، فيم كانت لك عندي ؟ قال : أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم ، قال : صدق ، أعطها إياه يا فضل .

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه هذا : يا عباس بن عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بني عبد مناف ، اعملوا لما عند الله : إني لا أغني عنكم من الله شيئا ، سلوني ما شئتم ، فلما حل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموت قال : يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ ، وكان عنده قدح فيه ماء فكان يدخل يده فيه ويمسح بها وجهه ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت ثم مات - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجر عائشة ، قالت عائشة : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وفي بيتي ودولتي ولم أظلم فيه أحدا .

وقال علي بن أبي طالب - عليه السلام - : مات وقد أسندته إلى صدري ، ووضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة . قال كعب : كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا ، وعليه يبعثون ، ثم سجي ببرد حبرة .

وكان بدء مرضه يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر ، وقيل : لليلة بقيت منه .

ومات يوم الاثنين ، الثاني عشر من شهر ربيع الأول حتى زاغت الشمس ، وهو مثل اليوم الذي دخل فيه إلى المدينة مهاجرا : لأنه دخلها في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول .

وقال ابن عباس : ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين ، ورفع الحجر يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين . فكان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما ، ونزل على حاله مسجى لم يدفن في بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، ودفن في آخره ، وقيل : في الليل بعد أن ربا قميصه . قال القاسم بن محمد : واخضرت أظفاره ، وكان له يوم مات في رواية الجمهور ثلاث وستون سنة ، أقام منها بالمدينة بعد هجرته إليها عشر سنين يخرج فيها إلى غزواته ويعود [ ص: 96 ] إليها ، وحضر غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة : علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، فتفرد علي بغسله ، وكان العباس يستر عليه الثوب وكان الفضل يناوله الماء ، وكان أسامة يتردد إليهم بالماء ، ولما أرادوا نزع قميصه لغسله ، سمعوا هاتفا يقول ، يسمعون صوته ولا يرون شخصه : غسلوه في قميصه الذي مات فيه ولا تنزعوه عنه ، فغسل فيه ، وكفن في ثلاثة أثواب بيض غلاظ يمانية سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ، وحنط وكان في حنوطه مسك .

ولما فرغ من إكفانه ، ووضع على سريره ، ودخل الناس فصلوا عليه أفواجا ، لا يؤمهم أحد : لأنه كان إمام الأمة حيا وميتا ، فكان أول من دخل للصلاة عليه بنو هاشم ، ثم المهاجرون ، ثم الأنصار ، ثم من بعدهم من الرجال ، ثم النساء ، ثم الصبيان .

ودخل أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، وسلم الناس كما سلما ، ثم قالا : إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل الله جملة إليه . ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمات ربه ، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه ، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه : فإنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما لا نبتغي بالإيمان بدلا ، ولا نشتري به ثمنا أبدا ، فقال الناس : آمين آمين وتفرقوا .

ثم دخل بعدهم فوج بعد فوج ، وابتدأ الناس بالصلاة عليه من حين زاغت الشمس من يوم الاثنين إلى أن زاغت الشمس من يوم الثلاثاء ، واختلفوا في موضع قبره فقال قائل عند المنبر .

وقال قائل : حيث كان يصلي بالناس .

وقال قائل : يدفن مع أصحابه بالبقيع ، فقال أبو بكر : ادفنوه حيث قبضه الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض : فرفع فراشه الذي مات عليه فدفن تحته .

وكانت عائشة قالت لأبي بكر : إني رأيت في المنام كأن ثلاثة أقمار سقطن في حجرتي ، فلما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها قال لها أبو بكر : هذا أحد أقمارك وهو خيرها .

واختلفوا في حفر قبره لحدا كأهل المدينة أو ضريحا كأهل مكة ، وكان أبو طلحة يلحد ، وأبو عبيدة بن الجراح يضرح ، فأنفذ العباس رجلين أحدهما إلى أبي طلحة والآخر إلى أبي عبيدة ، وقال : اللهم خر لنبيك فسبق مجيء أبي طلحة ، فحفر له لحدا فأخذ به الشافعي في الاختيار .

وقد روى جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اللحد لنا ، والشق لغيرنا .

[ ص: 97 ] ونزل إلى قبره أربعة ، اثنان متفق عليهما ، وهما علي بن أبي طالب ، والفضل بن العباس ، واثنان مختلف فيهما ، فروي أنهما العباس ، وعبد الرحمن بن عوف .

وروي أنهما : قثم بن العباس وأسامة بن زيد .

ونصب اللبن على لحده ، وبسط تحته قطيفة حمراء كان يلبسها .

وقيل : بل ألقيت في قبره فوق لحده ألقاها غلام كان يخدمه - صلى الله عليه وسلم - فقال ، صلى الله عليه وسلم : لا يلبسها بعدي أحد أبدا فتركت على حالها في القبر ، ولم تخرج منه ، وجعل بين قبره وبين حائط القبلة نحو سوط .

التالي السابق


الخدمات العلمية