الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا صار فرض الجهاد عاما في كل زمان ومكان ، واختلف أصحابنا في ابتداء فرضه ، هل كان على الأعيان ثم انتقل إلى الكفاية ؟ أو لم يزل على الكفاية ؟ على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن ابتداء فرضه كان على الأعيان ، ثم نقل إلى الكفاية لقول الله تعالى : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] . وفيه سبعة تأويلات :

أحدها : شبابا وشيوخا ، وهذا قول الحسن .

والثاني : أغنياء وفقراء ، وهذا قول أبي صالح .

والثالث : أصحاء ومرضى ، وهذا قول جويبر .

والرابع : ركبانا ومشاة ، وهذا قول جويبر .

والخامس : نشاطا وكسالى ، وهذا قول ابن عباس .

والسادس : على خفة النفير وثقله ، وهذا قول ابن جرير .

والسابع : خفافا إلى الطاعة ، وثقالا عن المخالفة . ويحتمل تأويلا ثامنا : خفافا إلى المبارزة وثقالا في المصابرة : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله [ ص: 111 ] [ التوبة : 41 ] . وفي الجهاد بالمال تأويلان :

أحدهما : الإنفاق على نفسه بزاد وراحلة .

والثاني : ببذل المال لمن يجاهد إن عجز عن الجهاد بنفسه .

وفي الجهاد بالنفس تأويلان :

أحدهما : الخروج مع المجاهدين .

والثاني : القتال إذا حضر الوقعة : ذلكم خير لكم فيه تأويلان :

أحدهما : أن الجهاد خير من تركه .

والثاني : أن الخير في الجهاد لا في تركه .

إن كنتم تعلمون فيه تأويلان :

أحدهما : إن كنتم تعلمون صدق الله في وعده ووعيده .

والثاني : إن كنتم تعلمون أن الله يريد لكم الخير ، فدلت هذه الآية على تعيين الفرض ، ثم دل عليه قوله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ التوبة : 118 ] يعني : تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . وفي قوله : خلفوا تأويلان :

أحدهما : خلفوا عن السرية .

والثاني : خلفوا عن الخروج : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت [ التوبة : 118 ] لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين هجروهم وضاقت عليهم أنفسهم يعني : مما لقوه من جفاء المسلمين لهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه [ التوبة : 118 ] أي : تيقنوا أنهم لا يجدون ملجأ يلجئون إليه في قبول توبتهم والصفح عنهم إلا إلى الله ثم تاب عليهم ليتوبوا [ التوبة : 118 ] 0 أي : قبل توبتهم ليستقيموا .

قال كعب بن مالك : وذلك بعد خمسين ليلة من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك ، فلو كان فرض الجهاد على الكفاية دون الأعيان لم يخرج هؤلاء الثلاثة وقد خرج في هذه الغزوة ثلاثون ألفا ، لا يؤثر هؤلاء الثلاثة فيهم .

والوجه الثاني : أن فرض الجهاد لم يزل على الكفاية دون الأعيان لقول الله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ التوبة : 122 ] . وفيه تأويلان :

أحدهما : وما كان عليهم أن يجاهدوا جميعا لأن فرضه على الكفاية .

والثاني : ما كان لهم إذا جاهدوا قوما أن يخرجوا معهم ، حتى يتخلفوا لحفظ [ ص: 112 ] الذراري وطاعة الرسول : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين فيه تأويلان :

أحدهما : ليتفقه الطائفة النافرة إما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جهاده ، وإما مهاجرة إليه في إقامته ، وهذا قول الحسن .

والثاني : ليتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النفور في سراياه ، وهذا قول مجاهد . وفي المراد بقوله : ليتفقهوا في الدين تأويلان :

أحدهما : ليتفقهوا فيما يشاهدونه من نصر الله لرسوله ، وتأييده لدينه ، وتصديق وعده ومشاهدة معجزاته ليقوى إيمانهم ، ويخبروا به قومهم إذا رجعوا إليهم .

والثاني : ليتفقهوا في أحكام الدين ومعالم الشرع ، ويتحملوا عن الرسول ما يقع به البلاغ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم : فدل هذا على أن فرض الجهاد على الكفاية ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وفي قوله : خذوا حذركم تأويلان :

أحدهما : احذروا عدوكم .

والثاني : خذوا سلاحكم ، وقوله تعالى : فانفروا ثبات يعني : فرقا وعصبا ، أو انفروا جميعا أي : بأجمعكم . فخيرهم الله تعالى بين الأمرين ، فدل على أن فرضه لا يتعين على الكافة ، وإنما تعين على الثلاثة الذين تخلفوا : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم بأعيانهم ، فتعينت عليهم الإجابة حين عين الخروج عليهم ، فهذا توجيه الوجهين في ابتداء فرضه ، والصحيح عندي أن ابتداء فرضه كان على الأعيان في المهاجرين وعلى الكفاية في غيرهم : لأن المهاجرين انقطعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنصرته : فتعين فرض الجهاد عليهم ، ولذلك كانت سرايا رسول الله قبل بدر بالمهاجرين خاصة ، وما جاهد عليه الأنصار قبل بدر ، فتعين الفرض على من ابتدئ به ، ولم يتعين على من لم يبتدأ به ، ومن أجل ذلك سمى أهل الفيء من المقاتلة مهاجرين ، وجعل فرض العطاء فيهم ، وسمى غيرهم وإن جاهدوا أعرابا كما قال الشاعر :


قد حسها الليل بعصلبي أروع خراج من الداوي


مهاجرا ليس بأعرابي



التالي السابق


الخدمات العلمية