الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ودل كتاب الله عز وجل ، ثم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يفرض الجهاد على مملوك ولا أنثى ، ولا على من لم يبلغ : لقول الله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله فحكم أن لا مال للملوك وقال حرض المؤمنين على القتال فدل على أنهم الذكور ، وعرض ابن عمر على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فرده ، وعرض عليه عام الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه ، وحضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة عبيد ونساء غير بالغين فرضخ لهم وأسهم لضعفاء أحرار وجرحى [ ص: 114 ] بالغين فدل على أن السهمان إنما تكون إن شهد القتال من الرجال الأحرار فدل بذلك أن لا فرض على غيرهم في الجهاد " .

قال الماوردي : من يسقط عنه فرض الجهاد ضربان :

أحدهما : من يسقط عنه بعذر وإن كان في أهله ويأتي ذكرهم في الباب الآتي .

والضرب الثاني : من يسقط عنه : لأنه ليس من أهله .

والفرق بين الضربين أن من سقط عنه بعذر أسهم له إذا حضر ، ومن سقط عنه لغير عذر لم يسهم له إذا حضر : اعتبارا بصلاة الجمعة ، أن من سقط فرضها عنه بعذر لزمته إذا حضرها ، ومن سقطت عنه بغير عذر لم تلزمه إذا حضرها : اعتبارا بالحج أن من سقط عنه فرضه - لأنه ليس من أهله - لم يجز إذا حج عن فرضه ، ومن سقط عنه بغير عذر أجزأه إذا حج عن فرضه .

فإذا تقرر ما وصفنا ففرض الجهاد متوجه إلى من تكامل فيه أربعة شروط :

أحدها : الحرية ، فإن كان عبدا أو مكاتبا أو مدبرا أو فيه جزء من الرق - وإن قل - فليس من أهل الجهاد ، ولا يدخل فيمن توجه إليه فرض الكفاية لقوله تعالى : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله [ التوبة : 41 ] . وهذا خطاب لا يتوجه إلى المملوك : لأنه لا يملك ، فصار داخلا في قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج " [ التوبة : 91 ] لأن العبد لا يجد ما ينفق ، وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمررنا بقوم من مزينة ، فتبعنا مملوك لامرأة منهم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : استأذنت مولاتك ؟ فقال : لا ، فقال : لو مت لم أصل عليك ، ارجع واستأذنها ، وأقرئها مني السلام ، فرجع فاستأذنها فأذنت له .

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أسلم على يده رجل لا يعرفه سأل : أحر هو أم مملوك ؟ فإن قال : أنا حر بايعه على الإسلام والجهاد ، وإذا قال : أنا مملوك بايعه على الإسلام ولم يبايعه على الجهاد ، ولأنه لا يسهم له ، ولو كان من أهل الجهاد أسهم له ، ولأن العبادة إذا تعلقت بقطع مسافة بعيدة خرج العبد من فر منها كالحج ، ولا ينتقض بالهجرة : لأن المسافة فيها هي العبادة ، والمسافة في الحج والجهاد يتعلق بها فر من العبادة وليست هي العبادة .

والشرط الثاني : الذكورية ، فإن كانت امرأة أو خنثى مشكلا فلا جهاد عليها ، ولا يتوجه فرض الجهاد إليها لقول الله تعالى : ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال [ ص: 115 ] [ الأنفال : 65 ] . وإطلاق لفظ المؤمنين يتوجه إلى الرجال دون النساء ، ولا يدخلن فيه إلا بدليل ، وهو مذهب الشافعي .

وروى معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد قال : جهادك : الحج . وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جهاد الكبير الضعيف والمرأة الحج والعمرة ، ولأن مقصود الجهاد القتال ، والنساء يضعفن عنه .

روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة مقتولة ، فقال : ما بال هذه تقتل ولا تقاتل ولاستفاضة ذلك في الناس ، قال فيه الشاعر عمر بن أبي ربيعة وقد مر بامرأة مقتولة :


إن من أكبر الكبائر عندي قتل بيضاء حرة عطبول     كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

ولأنهن عورة يجب صونهن عن بذلة الحرب ، ولأنهن لا يسهم لهن لو حضرن ، ولو توجه الفرض إليهن لأسهم لهن .

والشرط الثالث : البلوغ ، فإن كان صبيا فلا جهاد عليه ، ولا يتوجه فرض الكفاية إليه ، لقول الله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج [ التوبة : 91 ] وفي الضعفاء تأويلان :

أحدهما : أنهم الصبيان وهو أظهر .

والثاني : المجانين ، ولم يرد بالضعف الفقر : لأنه قال : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ولقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه : ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد زيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، والبراء بن عازب ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر يوم بدر لصغرهم .

وروى نافع عن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني ولم يجزني في القتال وعرضت عليه يوم الخندق ، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ؛ ولأن القتال تكليف ، والصبي غير مكلف ، ولأنه ذرية يقاتل عنه ، ولا يقاتل : ولأنه يضعف عن معرفة القتال ومقاومة الرجال : ولأنه لا يسهم له لو حضر .

[ ص: 116 ] والشرط الرابع : العقل ، فلا يتوجه فرض الجهاد إلى مجنون ، ومن لا يصح تمييزه وتحريره لما قدمناه ؛ ولأن حضوره مفض لقلة تمييزه . إما إلى الهزيمة ، وإما إلى إلقاء نفسه إلى التهلكة ، وكلاهما ضرر .

فإذا استكملت هذه الشروط الأربعة في مسلم ، كان من استكملت فيه من أهل الجهاد ، وتوجه فرض الكفاية إليه سواء كان يحسن القتال أو لا يحسن : لأنه إن كان يحسن القتال حارب ، وإن كان لا يحسن كثر وهيب أو تخلف عن الوقعة لحفظ رحال المحاربين ، فكان لخروجه معهم تأثير .

ويجوز للإمام أن يأذن للعبيد في الجهاد إذا خرجوا مع ساداتهم أو بإذنهم .

ويأذن في خروج غير ذوات الهيئات من النساء : لمداواة الجرحى ، وتعليل المرضى ، وإصلاح الطعام : فقد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في غزواته ، ويأذن في خروج من اشتد من الصبيان : لأنهم أعوان ، ولا يأذن في خروج المجانين لأن خروجهم ضار .

فأما البلوغ فقد ذكره الشافعي هاهنا ، وقد قدمنا شرحه في كتاب الحجر وغيره بما أغنى عن إعادته ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية