الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر تفسير ما استدل به الشافعي من الآيات فأول المذكورين من أصحاب الأعذار الأعمى ، وهو الذاهب البصر ، فإن كان ضعيف البصر لعلة فيه ، فإن كان يرى الأشخاص ، وإن لم يعرف صورها ، ويمكنه أن يتقي أخفى السلاح وهو السهام توجه إليه فرض الجهاد ، وإن لم يدرك ذلك : لم يتوجه إليه فرضه . فأما الأعور فيتوجه إليه فرض الجهاد : لأنه يدرك بالعين الباقية ما كان يدركه بهما .

وكذلك الأعشى الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا ، والأحول ، والأعمش يتوجه فرض الجهاد إلى جميعهم ، وهكذا الأصم : لأن المعتبر النظر دون السمع .

وروى زيد بن ثابت قال : قال لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : اكتب : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ) الآية . فكتبتها في كتف ، فقال ابن أم مكتوم ، وكان أعمى : فكيف بمن لا يستطيع قال : فأخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السكينة ثم سري عنه ، فقال : اقرأ يا زيد ما كتبت فقرأت : لا يستوي القاعدون من المؤمنين [ النساء : 95 ] . فقال : غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله [ النساء : 95 ] . فكتبتها .

والثاني : من أهل الأعذار الأعرج ، وفي المراد به في الآية قولان :

أحدهما : المقعد .

[ ص: 120 ] والثاني : وهو تأويل الشافعي ، والظاهر من الآية أنه الأعرج من إحدى رجليه لقصورها عن الأخرى ، وهو على ضربين :

أحدهما : أن يضعف به عن الركوب ويعجز عن المشي فلا يتوجه فرض الجهاد إليه : لأنه يعجز عن الطلب ، ويضعف عن الهرب .

والضرب الثاني : أن يقدر على الركوب والمشي ويضعف عن السعي : فيتوجه إليه فرض الجهاد .

وأما الأقطع اليد أو أشلها فلا يتوجه فرض الجهاد إليه : لعجزه عن القتال ، سواء قطعت يمناه أو يسراه لأنه يقاتل باليمنى ويتقي باليسرى .

وإن ذهب شيء من أصابع يده أو رجله بقطع أو شلل نظر .

فإن بقي أكثر بطشه توجه الفرض إليه .

وإن ذهب أكثره سقط الفرض عنه .

والثالث : من أهل الأعذار المريض وهو على ضربين :

أحدهما : أن يعجز به عن النهوض فيسقط الفرض عنه .

والثاني : أن يقدر على النهوض فعلى ضربين :

أحدهما : أن يكون مندوبا بالزيادة التي تعجز عن النهوض فيسقط الفرض عنه .

والثاني : أن لا يعذر به فيتوجه الفرض إليه : لأنه قل ما يخلو حي من مرض وإن خفي .

والرابع : من أهل الأعذار ، المعسر الذي لا يجد نفقة جهاده ، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله تعالى : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج [ التوبة : 91 ] .

والذي يعتبر من المال في استطاعته للجهاد يختلف باختلاف المغزى : فإن كان قريب المسافة على أقل من مسيرة يوم وليلة بحيث لا تقصر إليه الصلاة لم يعتبر فيه وجود الراحلة ، كما لا تعتبر في استطاعته الحج ، واعتبر في استطاعته ثلاثة أشياء :

نفقة سفره ، ونفقة من يخلفه من أهله ، وثمن سلاحه .

وإن بعدت المسافة إلى حيث تقصر بها الصلاة ، اعتبر في استطاعته مع الثلاثة المتقدمة وجود الراحلة سواء قدر على المشي أو ضعف عنه كالحج ، فإن عجز عن أحد هذه الأربعة سقط عنه فرض الجهاد ما كان باقيا على عجزه ، فلو بذل له ما عجز عنه من المال ، نظر في الباذل ، فإن كان الإمام قد بذله من بيت المال لزمه قبوله ، إذا تكاملت [ ص: 121 ] فيه شروط الجهاد ، ولزمه فرضه : لأن له في بيت المال حقا .

وإن بذله غير الإمام من ماله لم يلزمه قبوله : لأنه لا يجب عليه قبول المال لالتزام الفرض ، كما لا يلزمه قبوله في الحج ، فإن قبله لزمه فرض الجهاد بعد القبول ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية