الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وبإذن أبويه لشفقتهما ورقتهما عليه إذا كانا مسلمين ، وإن كانا على غير دينه ، فإنما يجاهد أهل دينهما : فلا طاعة لهما عليه قد جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهد عبد الله بن عبد الله بن أبي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوه متخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " بأحد " يخذل من أطاعه " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، إذا كان للمجاهد أبوان مسلمان لم يكن له أن يجاهد إلا بإذنهما لقول الله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ الإسراء : 23 ] . فجمع بين طاعته وطاعة الوالدين ، ثم قال : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] . يعني : حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما القذى ، فلا تضجر كما كانا يميطانه عنه صغيرا من غير ضجر ، وفي هذا الأف تأويلان :

أحدهما : أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح ، قاله مقاتل .

والثاني : أنها كلمة تدل على التبرم والضجر ، خرجت مخرج الأصوات المحكية ، والعرب تقول : أف وتف ، والأف في اللغة وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار .

ولا تنهرهما [ الإسراء : 23 ] . فيه تأويلان :

أحدهما : لا ترد عليهما قولا .

والثاني : لا تنكر منهما فعلا .

وقل لهما قولا كريما فيه تأويلان :

أحدهما : لينا .

والثاني : حسنا .

واخفض لهما جناح الذل من الرحمة [ الإسراء : 124 ] . فيه تأويلان :

أحدهما : أنه الخضوع لهما .

والثاني : ترك الاستعلاء عليهما ، مأخوذ من علو الطائر بجناحه ، والمراد بالرحمة الحنو والشفقة ، فدل عموم ما أمر به من طاعتهما على أن يرجع في الجهاد إليهما .

[ ص: 123 ] ثم من نص السنة ما رواه أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فقال : " قد هجرت الشرك ، وبقيت هجرة الجهاد ، فهل لك باليمن أحد ؟ قال : نعم : أبواي قال : " استأذنتهما ؟ فإن أذناك فجاهد وإلا فبرهما .

وروى حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد .

وروى عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : جئت أبايعك ، وتركت أبوي يبكيان فقال : ارجع إليهما ، فأضحكهما كما أبكيتهما وأبى أن يبايعه .

وروي أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله : أبايعك على الجهاد فقال : هل لك من بعل ؟ قال : نعم ، قال : فانطلق فجاهد ، فإن لك فيه مجاهدا حثيثا ، يريد بالبعل من تلزمه طاعته من والد أو والدة مأخوذ من قولهم : بعل الدار ، أي مالكها ، ومنه سمي الزوج بعلا .

ولأن فرض الجهاد على الكفاية وطاعة الأبوين من فروض الأعيان : فكان أوكد ، فأما إن كان أبواه مملوكين لم يلزمه استئذانهما : لأنهما يمنعانه تدينا ، وقد جاهد أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوه ، عتبة يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر حتى قتل ، وكان سيد المشركين .

وقاتل عبد الله بن عبد الله بن أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأبوه عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين يخذل الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصدهم عن اتباعه ، ويقول : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .

وقيل : إن القائل لهذا قشير بن معتب فدل على أنه لا اعتبار بإذن من أشرك أو نافق لأن النفاق هو الشرك الخفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية