الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " فإذا لم يقم بالنفير كفاية : خرج من تخلف ، واستوجبوا ما قال الله تعالى فيهم كفاية : حتى لا يكون النفير معطلا ، لم يأثم من تخلف لأن الله تعالى وعد جميعهم الحسنى " .

قال الماوردي : وجملته أن قتال العدو ينقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكونوا مقيمين في بلادهم : متشاغلين بأمورهم من مزارع وصنائع ومتاجر ، ففرض جهادهم على الكفاية ، وأقل ما يقاتلوا في كل عام مرة ، فإن كان في ثغرهم أمير مقلدا على غزوهم تعين عليه فرض تجهيزهم في الغزو وتدبيرهم في وقت الخروج على ما يأمنون ضرره من اشتداد حر أو برد ، ويسلك بهم أسهل الطرق وأوطأها وأكثرها ماء ومرعى ، وأقل ما يخرجه إليهم أن يقاتل كل رجل منهم رجلين من عدوهم كما قال الله تعالى : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [ الأنفال : 66 ] . وأكثر ما يخرجه من أهل الثغر أن يخرج من كل رجلين رجلا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فإذا استقل ذلك الثغر على هذا التقدير قام بهم فرض الكفاية ، وسقط عن كافة الأمة ما لم يحدث فيتغير هذا التقدير بحسب الحادثة .

والقسم الثاني : أن يسير العدو من بلاده إلى نحو بلاد الإسلام ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون بغير القتال فيكون حكم قتاله كحكمه لو كان مقيما لم يسر على ما قدمناه من فرض الكفاية في وقت غزوه ، ولكن ينبغي أن يتحرز من مكره في طلب غرة وانتهاز فرصة .

والضرب الثاني : أن يكون بأهبة القتال مستعدا لحرب فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون على مسافة يوم وليلة فصاعدا من بلاد الإسلام ، ففرض جهاده [ ص: 144 ] على الكفاية ، غير متعين على الكافة كما لو كان مقيما في داره : لأنه ما تعداها ، لكن يجب التأهب لقتاله ، وفرض هذا التأهب على أعيان أهل ذلك الثغر .

والضرب الثالث : أن يسير إلى مسافة أقل من يوم وليلة ، فهذا في حكم من قد أظل بلاد الإسلام ووصل إليها لقرب المسافة التي لا تقصر فيها الصلاة : فتعين فرض قتاله على جميع أهل ذلك الثغر من المجاهدين سوى النساء والصبيان والمرضى ، ويدخل في فرض القتال من عليه دين ومن له أبوان لا يأذنان له لأنه قتال دفاع ، وليس بقتال غزو ، فتعين فرضه على كل مطيق ، ثم ينظر عدد العدو ، فإن كانوا أكثر من ثلث أهل الثغر لم يسقط بأهل الثغر فرض الكفاية عن كافة المسلمين ، ووجب على الإمام إمدادهم بمن يقوم به الكفاية في دفع عدوهم ، وإن كانوا ثلثي أهل الثغر فما دون ، فهل يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين أم لا ؟ على وجهين حكاهما ابن أبي هريرة :

أحدهما : يسقط بهما فرض الكفاية عن من عداهم لما أوجبه الله تعالى عليهم من قتال مثليهم فيصير فرض القتال عليهم متعينا ، وعن غيرهم ساقطا .

والوجه الثاني : أنه لا يسقط عن غيرهم فرض الكفاية خوفا من الظفر بهم ، فيصير فرض القتال متعينا عليهم وباقيا على الكفاية في غيرهم .

والقسم الثالث : أن يدخل العدو بلاد الإسلام ويطأها ، فيتعين فرض قتاله على أهل البلاد التي وطئها ودخلها ، فإن لم يكن بأهلها قدرة على دفعه تعين فرض القتال على كافة المسلمين حتى ينكشف العدو عنهم إلى بلاده ، وإن كان بهم قدرة على دفعه لم يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين ما كان العدو باقيا في دارهم ، وهل يصير فرض قتاله متعينا على كافة المسلمين كما تعين على أهل الثغر أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يتعين : لأن جميع المسلمين يد على من سواهم فيصير فرض قتالهم متعينا على كافة المسلمين .

والوجه الثاني : أن لا يتعين عليهم ، ويكون باقيا على الكفاية لقدرة أهل الثغر على دفعهم ، فيصير فرض قتاله على أهل الثغر متعينا ، وعلى الكافة من فروض الكفايات ، ولا يراعى بعد دخول العدو دار الإسلام أن يكونوا مثلين ، كما يراعى قبل دخوله بل يراعى القدرة على دفعهم : لأن العدو بعد الدخول ظافر وقبله متعرض ، فإن انهزم أهل ذلك الثغر عنهم صار فرض جهادهم متعينا على كافة الأمة وجها واحدا حتى يردوه إلى بلاده ، فإذا ردوه إليها لم يخل حاله من أحد أمرين :

[ ص: 145 ] أحدهما : أن يعود خاليا من سبي وأسرى ، فقد سقط ما تعين من فرض قتاله برده .

والثاني : أن يعود بسبي وأسرى ، فيكون فرض قتاله باقيا حتى يسترجع من في يده من السبي والأسرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية