الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وكذلك رد السلام ودفن الموتى والقيام بالعلم ونحو ذلك ، فإذا قام بذلك من فيه الكفاية : لم يحرج الباقون ، وإلا حرجوا أجمعون " .

قال الماوردي : وإنما ذكر هذا ، وإن لم يكن من أحكام الجهاد : لأنه من فروض الكفايات بالجهاد فذكر ثلاثة أشياء : رد السلام ، ودفن الموتى ، وطلب العلم .

فأما السلام ، فيتعلق به حكمان :

أحدهما : في ابتدائه .

والثاني : في رده .

فأما ابتداؤه فينقسم ثلاثة أقسام : أدب ، وسنة ، ومختلف فيه .

فأما القسم الأول : وهو الأدب ، فسلام المتلاقيين ، وهو خاص ، وليس بعام : لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به كل منهم ، ويخرج به عن العرف ، وإنما يقصد به أحد أمرين :

إما أن يكسب به ودا ، وإما أن يستدفع به بذءا .

قال الله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن [ المؤمنون : 96 ] . فقيل في تأويله :

ادفع بالسلام إساءة المسيء : فصار هذا السلام خاصا وليس بعام ، وكان من آداب الشرع لا من سننه : لأنه يفعله لاجتلاب تآلف ، والأولى في ابتداء هذا السلام أن يبدأ به الصغير على الكبير ، والراكب على الماشي ، والقائم على القاعد : لأن ذلك مروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن استويا فأيهما بدأ به كان له فضل التحية .

وأما القسم الثاني : وهو سلام السنة ، فهو سلام القاصد على المقصود ، وهو عام يبتدئ به كل قاصد على كل مقصود من صغير وكبير ، وراكب وماش ، قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدئ بالسلام إذا قصد ، ويبتدئ به إذا لقي وقصد وهو من سنن الشرع : لأنه مندوب إليه لغير سبب مجتلب ، وبينه وبين سلام الأدب فرقان :

أحدهما : عموم هذا وخصوص ذاك .

والثاني : تعيين المبتدئ بهذا وتكافؤ ذاك ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يكون المقصود واحدا فيتعين السلام عليه من القاصد ، ويتعين الرد فيه على المقصود .

[ ص: 146 ] والضرب الثاني : أن يكون المقصود جماعة ، فذلك ضربان :

أحدهما : أن يكون عدد الجماعة قليلا يعمهم السلام الواحد فليس يحتاج في قصدهم إلى أكثر من سلام واحد يقيم به سنة السلام ، وما زاد عليه من تخصيص بعضهم فهو أدب وليس يلزم رد السلام إلا من واحد ومن زاد عليه فهو من أدب .

والضرب الثاني : أن يكون جمعا لا ينتشر فيهم سلام الواحد كالجامع والمسجد الحافل بأهله ، فسنة السلام أن يبتدئ به الداخل في أول دخوله إذا شاهد أوائلهم ، ويؤدي سنة السلام جميع من سمعه ، ويدخل في فرض الكفاية - الرد - جميع من سمعه ، فإذا أراد الجلوس فيهم سقطت عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين ، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدهم ممن لم يسمعوا سلامه المتقدم ، ففيه وجهان :

أحدهما : أن سنة السلام عليهم قد سقطت بالسلام على أوائلهم : لأنهم جمع واحد فإن سلم عليهم كان أدبا ، فعلى هذا إذا أحد أهل المسجد رد عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم .

والوجه الثاني : أن سنة السلام باقية عليه فيمن لم ينتشر فيهم سلامه إذا أراد الجلوس بينهم لأنهم بسلامه أخص ، فعلى هذا لا يسقط فرض الرد عن الأوائل برد الأواخر .

وأما القسم الثالث : وهو المختلف فيه فسلام القاصد إذا لزمه الاستئذان على المقصود ، فيؤمر القاصد بالاستئذان والسلام لقول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] . وفي قوله : حتى تستأنسوا ، تأويلان :

أحدهما : يعني حتى تستأذنوا ، قاله ابن عباس .

والثاني : حتى تعلموا أن فيها من يأذن لكم من قوله : آنس من جانب الطور نارا [ القصص : 29 ] . أي : علم ، قاله ابن قتيبة ، وفيما يبتدئ به من الاستئذان والسلام وجهان :

أحدهما : يبدأ بالاستئذان قبل السلام لقوله تعالى : حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] . فعلى هذا يكون الاستئذان واجبا والسلام سنة .

والوجه الثاني : أن يبدأ بالسلام قبل الاستئذان : لأنه وإن كان مقدما في التلاوة فهو مؤخر في الحكم لرواية محمد بن سيرين : أن رجلا استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : " قم " فعلم هذا كيف يستأذن فإنه لم يحسن ، فسمعها الرجل فسلم واستأذن ، والأولى عندي من اختلاف هذين الوجهين أن يكون محمولا على [ ص: 147 ] اختلاف حالين ، لا يتعارض فيهما كتاب ولا سنة وهو إن وقعت عين القاصد على المقصود قبل دخوله قدم السلام على الاستئذان على ما جاءت به السنة ، وإن لم تقع عينه عليه قدم الاستئذان على السلام على ما جاء به الكتاب ، فعلى هذا إذا أمر أن يبتدئ بالسلام فسلم ، فهل يكون سلامه استئذانا أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يكون استئذانا ، ويكون رده إذنا ، فعلى هذا يكون هذا السلام واجبا وإعادته بعد الوجوب أدبا .

والوجه الثاني : لا يكون استئذانا ، ولا يكون رده إذنا فعلى هذا يكون هذا السلام مسنونا ، قد سقطت به سنة السلام بعد الإذن .

التالي السابق


الخدمات العلمية