الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وتقسم الغنيمة في دار الحرب ، قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث غنمها وهي دار حرب بني المصطلق ، وحنين ، وأما ما احتج به أبو يوسف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بعد قدومه المدينة وقوله : الدليل على ذلك أنه أسهم لعثمان وطلحة ولم يشهدا بدرا . فإن كان كما قال فقد خالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعطي أحدا لم يشهد الوقعة ، ولم يقدم مددا عليهم في دار الحرب ، وليس كما قال ( قال الشافعي ) ما قسم - عليه السلام - غنائم بدر إلا بسير شعب من شعاب الصفراء ، قريب من بدر ، فلما تشاح أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غنيمتها أنزل الله عز وجل يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . فقسمها بينهم وهي له تفضلا وأدخل معهم ثمانية أنفار من المهاجرين والأنصار بالمدينة ، وإنما نزلت واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول . بعد بدر ولم نعلمه أسهم لأحد لم يشهد الوقعة بعد نزول الآية ، ومن أعطى من المؤلفة وغيرهم ، فمن ماله أعطاهم لا من الأربعة الأخماس ، وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش ، وابن الحضرمي فذلك قبل بدر ولذلك [ ص: 165 ] كانت وقعتهم في آخر الشهر الحرام فتوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه وليس مما خالف فيه الأوزاعي في شيء " .

قال الماوردي : وهذا كما ذكر ، الأولى بالإمام أن يعجل قسمة الغنيمة في دار الحرب ، إذا لم يخف ضررا ، فإن أخرها إلى دار الإسلام كره له ذلك إلا من عذر .

قال أبو حنيفة : يؤخر قسمها إلى دار الإسلام ، ولا يقسمها في دار الحرب .

وقال مالك : يعجل قسمة الأموال في دار الحرب ، ويؤخر قسم السبي إلى دار الإسلام ، واستدل من منع قسمها في دار الحرب برواية مقسم ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بعد مقدمه إلى المدينة ، وأعطى عثمان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف منها : ولأن عبد الله بن جحش حين غنم ابن الحضرمي بعد قتله لم يقسم غنيمته حتى قدم بها المدينة ، وكانت أول مال غنمه المسلمون .

قالوا : وقد روى مكحول قال : ما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنيمته قط في دار الحرب ، ولا يقول مكحول هذا قطعا وهو تابعي إلا عن اتفاق الصحابة ، قالوا : ولأنها في دار الحرب تحت أيديهم واستدامة قبضتهم ، فوجب أن يمنعوا من قسمها كما منعوا من بيع ما لم يقبض ، ولأنها في دار الحرب معرضة للاسترجاع : فلم يجز قسمها كما لو كانت الحرب قائمة .

ودليلنا ما رواه الشافعي بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل ابن مسعود سيف أبي جهل ببدر ، والنفل من القسم .

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا حفاة عراة جياعا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، فانقلب القوم حيث انقلبوا ومع كل واحد منهم الحمل والحملان ، وقد كساهم ، وأطعمهم ، وانقلابهم من بدر بهذا يكون بعد القسمة ، فدل على أنه قسمها ببدر .

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بني المصطلق يوم المريسيع على مياههم ، ووقفت جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس فاشتراها منه ، وأعتقها وتزوجها ، وقسم غنائم خيبر لها ، وعامل عليها أهلها ، وقسم غنائم حنين مع السبي بأوطاس ، وهو وادي حنين ، وأعطى منها المؤلفة قلوبهم ، وقد نقل أهل السير والمغازي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غنم غنيمة قط إلا قسمها حيث غنمها ، ولأن كل موضع صحت فيه الغنيمة لم يمنع فيه من القسمة كدار الإسلام ، ولأن كل غنيمة صح قسمها في دار الإسلام لم تكره قسمتها في دار الحرب كالثياب ، فإن أبا حنيفة وافق على تعجيل قسمتها في دار الحرب ، ولأن في تعجيل قسمتها فى دار الحرب تعجيل الحقوق إلى [ ص: 166 ] مستحقيها ، فكان أولى من تأخيرها ، ولأن حفظ ما قسم أسهل والمؤونة في نقله أخف فكان أولى .

فأما الجواب عن حديث ابن عباس : أنه قسم غنائم بدر بالمدينة فمن وجهين :

أحدهما : أنا روينا خلافه ، فتعارضت الروايتان .

والثاني : أن المهاجرين والأنصار تشاجروا فيها ، فأخرها لتشاجرهم ، حتى جعلها الله تعالى لرسوله بقوله تعالى : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ الأنفال : 1 ] . فحينئذ قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأيه ، وأدخل فيهم ثمانية لم يشهدوا بدرا ، ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار .

وأما حديث مكحول مرسل ، والنقل المشهور بخلافه .

وأما الجواب عن تأخير عبد الله بن جحش غنيمة ابن الحضرمي إلى المدينة ، فمن وجهين :

أحدهما : أنها كانت في الأشهر الحرم فشكوا في استباحتها ، فأخروها حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عنها ، فأنزل الله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ البقرة : 217 ] الآية .

والثاني : أن عبد الله بن جحش لم يعلم مستحق الغنيمة وكيف تقسم ، فأخرها حتى استعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها .

وأما الجواب عن قياسهم على بيع ما لم يقبض ، فمن وجهين :

أحدهما : أن ما لم يقبض من المبيعات مضمون على بائعه ، فمنع من بيعه قبل قبضه ، وهذا غير مضمون فافترقا .

والثاني : أن يد الغانمين أثبت : لأن يد المشركين عليه بحكم الدار ، ويد الغانمين عليه بالاستيلاء والمشاهدة ، فصار كرجل في دار رجل ، وفي يده ثوب ، فادعاه صاحب الدار : لأن صاحب اليد أحق من صاحب الدار : لأن صاحب الدار يده من طريق الحكم ، ويد القابض من طريق المشاهدة فكانت أقوى وكان بالملك أحق .

فأما الجواب عن قولهم إنها معرضة للاسترجاع ، فهو أنها كذلك فيما اتصل من دار الإسلام بدار الحرب ، ولا يمنع ذلك من جواز قسمتها ، فكذلك في دار الحرب ، فأما مع بقاء دار الحرب فلم يستقر الظفر فيستقر عليها ملك للغانمين أو يد .

التالي السابق


الخدمات العلمية