الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " في كتاب حكم أهل الكتاب : وإنما تركنا قتل الرهبان اتباعا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال في كتاب السير : ويقتل الشيوخ والأجراء والرهبان ، قتل دريد بن الصمة ابن خمسين ومائة سنة في شجار لا يستطيع الجلوس فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - : فلم ينكر قتله ( قال : ) ورهبان الديات والصوامع والمساكن سواء : ولو ثبت عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - خلاف هذا لأشبه أن يكون أمرهم بالجد على قتال من يقاتلهم ، ولا يتشاغلون بالمقام على الصوامع عن الحرب ، كالحصون لا يشغلون بالمقام بها عما يستحق النكاية بالعدو ، وليس أن قتال أهل الحصون حرام ، وكما روي عنه أنه نهى عن قطع الشجر المثمر : ولعله لأنه قد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع على بني النضير ، وحضره يترك ، وعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدهم بفتح الشام ، فترك قطعه لتبقى لهم منفعته إذا كان واسعا لهم ترك قطعه ( قال المزني ) - رحمه الله - : هذا أولى القولين عندي بالحق : لأن كفر جميعهم واحد ، وكذلك سفك دمائهم بالكفر في القياس واحد " .

قال الماوردي : وجملة المشركين بعد الظفر بهم ينقسم أربعة أقسام :

أحدها : المقاتلة أو من كان من أهل القتال وإن لم يقاتل فهو من المقاتلة ، ويجوز قتلهم على ما قدمناه من خيار الإمام فيهم .

والقسم الثاني : وهم أهل الرأي والتدبير منهم دون القتال ، فيجوز قتلهم أيضا شبانا كانوا أو شيوخا ، قدروا على القتال أو لم يقدروا : لأن التدبير علم بالحرب ، والقتال عمل ، والعلم أصل للعمل ، وقد أفصح المتنبي حيث قال :


الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني

ولأن التدبير أنكى وأضر وهو من الشيخ أقوى وأصح ، هذا دريد بن الصمة أشار على هوازن يوم حنين أن يتجردوا للقتال ، ولا يخرجوا معهم الذراري ، فخالفه مالك بن عوف النضري وخرج بهم فهزموا فقال دريد في ذلك :

[ ص: 193 ]

وأمرتهم أمري بمنعرج اللوى     فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

وظفر بدريد وكان في شجار وهو ابن مائة وخمسين سنة ، وقيل : مائة وخمس وستين ، فقتل ، وقيل : ذبح ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراه فلم ينه عنه : فدل على إباحة قتل ذوي الآراء وإن كانوا شيوخا .

والقسم الثالث : من الذراري من النساء والأطفال ، فلا يجوز أن يقتلوا في المعركة إلا أن يقاتلوا فيقتلوا دفعا لأذاهم ، فأما بعد الأسر فلا يجوز أن يقتلوا ، سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لنفي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والذراري والولدان ، ولأنهم سبايا مسترقون قد ملكهم الغانم كالأموال .

والقسم الرابع : من اعتزل القتال والتدبير من رجالهم ، إما لعجز كالزمني وذوي الهرم من الشيوخ ، وإما لتدين كالرهبان ، وأصحاب الصوامع والديارات ، شبابا كانوا أو شيوخا ، ففي إباحة قتلهم قولان :

أحدهما : قاله في كتاب حكم أهل الكتاب لا يجوز قتلهم ، وهو مذهب أبي حنيفة لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اقتلوا الشرخ واتركوا الشيخ ، الشرخ : الشباب ، ومنه قول الشاعر :


على شرخ الشباب تحية     فإذا لقيت ددا فقط من دد

والدد : اللهو واللعب ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لست من دد ولا دد مني وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : انطلقوا بسم الله ، وعلى ملة رسول الله ، لا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا ، ولا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وخيموا غنائمكم ، وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين .

وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال لزياد بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم إلى الشام : أوصيكم بتقوى الله ، اغزوا في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تفسدوا في الأرض ، ولا تعصوا ما تؤمرون ، ولا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ ، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم على الصوامع فدعوهم ، وما حبسوا له أنفسهم ، وستجدون أقواما اتخذ الشيطان في أوساط رءوسهم أفحاصا ، فإذا وجدتموهم فاضربوا أعناقهم ، والأفحاص أن يحلقوا أوساط رءوسهم يقال لهم : الشمامسة ، ذكره أبو عبيدة ، ولأن من لم يقاتل في الغزو لم يقتل في الأسر كالذراري .

والقسم الثاني : نص عليه في سير الواقدي واختاره المزني ، يجوز أن يقتلوا لعموم قول الله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] .

[ ص: 194 ] وروى الحسن البصري ، عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اقتلوا شيوخ أهل الكتاب واستحيوا شرخهم ، يعني استبقوا شبابهم أحياء ومنه قوله تعالى : يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم [ القصص : 4 ] . فأمر بقتل الشيوخ واستبقاء الشباب لأمرين :

أحدهما : أنه لا نفع في قتل الشيوخ ، وفي الشباب نفع .

والثاني : أن رجوع الشباب عن كفره أقرب من رجوع الشيخ ، ويحتمل أن يريد بالشرخ غير البالغين وهو أشبه : لأن من كان من أهل القتال جاز قتله ، وإن قعد عن القتال كالمقاتل ، ولأن من استحق سهما إذا كان مسلما جاز قتله وإذا كان كافرا كالمقاتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية