الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت أن فتح أرض السواد عنوة انتقل ، الكلام إلى فصلين :

أحدهما : حكم أرض العنوة .

والثاني : ما استقر عليه حكم أرض السواد بعد الاستنزال .

فأما الفصل الأول : في حكم كل أرض إذا فتحت عنوة ، فقد اختلف فيه الفقهاء على مذاهب شتى .

[ ص: 260 ] فذهب الشافعي إلى أنها تكون غنيمة كسائر الأموال ، يخرج خمسها لأهل الخمس ، وتقسم باقيها بين الغانمين كقسمة الأموال المنقولة إلا أن يرى إمام العصر أن يستنزلهم عنه بطيب أنفسهم ، أو بعوض يبذله لهم ليفضها على كافة المسلمين ، فيمضي ، وإلا فهي غنيمة مقسومة لعموم قول الله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال 41 ] . فدل على أن ما سوى الخمس للغانمين ، كما قال : وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء : 11 ] . فدل على أن ما سوى الثلث للأب .

وقال مالك والأوزاعي : الأرض غير مغنومة ، وتصير بالفتح وقفا على كافة المسلمين ، لا يجوز لهم بيعها .

وقال أبو حنيفة : يكون الإمام فيها مخيرا بين ثلاثة أشياء : بين أن يقسمها على الغانمين كالذي قاله الشافعي ، وبين أن يقرها على ملك أربابها ، ويضرب عليهم جزيتين :

إحداهما : على رءوسهم ، والأخرى على أرضهم .

فإذا أسلموا سقطت جزية رءوسهم ، وبقيت جزية أرضهم تؤخذ باسم الخراج : ويجوز لهم بيعها .

وبين أن يقفها على كافة المسلمين ، فلا يجوز لهم بيعها .

وأما الفصل الثاني : فيما استقر عليه حكم أرض السواد بعد الاستنزال عنها ، فالذي نص عليه الشافعي في سير الواقدي أن عمر وقفها على كافة المسلمين ، فلا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث كسائر الوقوف ، وقال في مثله من كتاب الرهن : إنه لو رهن أرضا من أرض الخراج كان الرهن باطلا ، ثم إن عمر بعد وقفها أجرها للدهاقين والأكرة بالخراج الذي ضربه عليها يؤديه في كل سنة أجرة عن رقابها ، فيكونوا أحق بالتصرف فيها لأصل الإجازة ، وإن لم تكن ملكا لهم وإذا مات أحدهم انتقل إلى وارثه يدا لا ملكا كالموروث ، وبه قال أبو سعيد الإصطخري ، وأكثر البصريين ، واختلف من قال بهذا فيما توجه الوقف إليه على وجهين :

أحدهما : إلى جميع الأرض من مزارع ومنازل .

والثاني : إلى المزارع دون المنازل : لأن وقف المنازل مفض إلى خرابها ، فهذا قول من جعلها وقفا .

وقال أبو العباس بن سريج ، وأبو إسحاق المروزي : لم يقفها عمر ، وإنما باعها على أربابها بثمن يؤدى في كل سنة على الأبد بالخراج المضروب عليها لينتفع بها [ ص: 261 ] الآخرون كما انتفع بها الأولون ، ويكون الخراج ثمنا ويجوز أن تباع ، وتوهب ، وتورث ، قالوا : وإنما كانت مبيعة ، ولم تكن وقفا لأمرين :

أحدهما : أن عمر قصد بما فعله فيها حفظ عمارتها ، ولو كانت وقفا لا يملكها المتصرف ، ويرى أنها ليست ملكا مبيعا موروثا لم يشرع أهلها في تأبيد عمارتها ، وراعوا ما يتعجلون به استغلالها ، فأفضى ذلك إلى خرابها ، وزوال الغرض المقصود بها .

والثاني : أنه لما لم يزل أهلها على قديم الوقت وحديثه ، يتبايعونها ويتوارثونها ، ولا ينكره عليهم أحد من أئمة الأمصار ، ولا يبطله أحد من القضاة والحكام ، ولا يمتنع أحد من العلماء من أهل الديانات أن يتبايعوها ، ويتوارثوها ، دل على انعقاد الإجماع على خروجها من أحكام الوقف إلى أحكام الأملاك .

قالوا : وإنما استجاز عمر بيعها بهذا الثمن المجهول المؤبد لأمرين :

أحدهما : لوصولها من جهة المشركين المعفو عن الجهالة فيما صار منهم ، كما بذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البدأة والرجعة الثلث والربع من الغنيمة ، وإن كان قدرها مجهولا ، وكما يجوز أن يبذل لمن دل على القلعة في بلاد الشرك جارية من أهلها وإن جهلت .

والثاني : أن ما تعلق بالمصالح العامة يخفف حكم الجهالة فيه للجهالة بأحكام العموم .

وإطلاق هذين المذهبين في وقفها وبيعها عندي معلول : لأن ما فعله عمر فيها لا يثبت بالاجتهاد حتى يكون نقلا مرويا ، وقولا محكيا عن عقد صريح يستوثق فيه بالكتاب والشهادات في الأغلب ، وهذا معدوم فيه ، فلم يصح القطع بوقفها لما عليه الناس من تبايعها ، ولا القطع ببيعها بالخراج المضروب عليها ، لأمرين :

أحدهما : أن الخراج مخالف للأثمان بالجهالة ، وأنه مقدر بالزراعة .

والثاني : أن مشتريها يدفع خراجها دون بائعها ، فيصير دافعا لثمنين ، وليس للمبيع إلا ثمن واحد ، ويكون ما قيل من وقفها محمولا على أنه وقفها على قسمة الغانمين ووقف خراجها على كافة المسلمين ، فيكون ملكها مطلقا لمن أقرت عليه استصحابا لقديم ملكهم ، لما علم من عموم المصلحة فيه ، ودوام الانتفاع به ، فتصير مخالفة للأرض الصلح من وجهين ، وموافقة لها من وجهين :

[ ص: 262 ] فأما الوجهان من المخالفة ، فأحدهما : أن أرض الصلح لا حق للغانمين في رقابها ، فيمنعون منها جبرا ، وأرض السواد كانت رقابها للغانمين ، فاستنزلوا عنها عفوا ، وعوض منهم من أبى .

والثاني : أن خراج أرض الصلح لأهل الفيء خاصة ، وفيه الخمس لأهل الخمس ، وخراج أرض السواد لكافة المسلمين ، ولا خمس فيه لأهل الخمس لأن الخمس أخرج عنه عند قسمه .

وأما الوجهان في الموافقة ، فأحدهما : وضع الخراج على رقابها .

والثاني : جواز بيعها .

فإن قيل : فقد روي عن فرقد السبخي أنه قال : اشتريت شيئا من أرض السواد ، فأتيت عمر ، فأخبرته بذلك ، فقال : ممن اشتريتها ؟ فقلت : من أربابها ، فقال : هؤلاء أربابها يعني الصحابة ، فدل على أن بيعها لا يجوز .

فعنه جوابان :

أحدهما : أنه أنكر البائع ، ولم ينكر البيع .

والثاني : أنه محمول على ما قبل استنزالهم عنها أن ابتياعها لا يجوز إلا من الغانمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية