الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر وجوب أخذ الجزية من الكفار ، لإقرارهم على الكفر في مأخوذة من بعضهم دون جميعهم .

واختلف في المأخوذ منهم على أربعة مذاهب :

أحدها : - وهو مذهب الشافعي - أنها تؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ، ولا تؤخذ من غير أهل الكتاب عربا ولا عجما ، فاعتبرها بالأديان دون الأنساب .

والثاني : - على ما قاله أبو حنيفة - بأنها تؤخذ من جميع أهل الكتاب ، ومن عبدة الأوثان إذا كانوا عجما ، ولا تؤخذ منهم إذا كانوا عربا .

والثالث : - ما قاله مالك - إنها تؤخذ من كل كافر من كتابي ، ووثني ، وعجمي ، وعربي ، إلا من كفار قريش ، فلا تؤخذ منهم ، وإن دانوا دين أهل الكتاب .

والمذهب الرابع : - ما قاله أبو يوسف - إنها تؤخذ من العجم سواء كانوا أهل كتاب أو عبدة أوثان ، ولا تؤخذ من العرب سواء كانوا من أهل الكتاب أو من عبدة الأوثان ، فجعلها معتبرة بالأنساب دون الأديان ، فصار الخلاف مع الشافعي في حكمين :

أحدهما : في عبدة الأوثان ، فعند الشافعي لا تقبل جزيتهم ، وعند غيره تقبل .

والثاني : في العرب ، فعند الشافعي تقبل جزيتهم ، وعند غيره لا تقبل .

فأما الحكم الأول في عبدة الأوثان ، فاستدل من ذهب إلى قبول جزيتهم بحديث سليمان بن بريدة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعثه على جيش قال له : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ولم يفرق بين عبدة الأوثان وأهل الكتاب ، وإن كان أكثرهم عبدة أوثان ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من المجوس وليس لهم [ ص: 285 ] كتاب ، فكذلك عبدة الأوثان ، ولأنه استذلال يجوز في أهل الكتاب ، فجاز في عبدة الأوثان كالقتل .

ودليلنا قوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب ، [ التوبة : 29 ] . فجعل الكتاب شرطا في قبولها منهم ، فلم يجز لعدم الشرط أن تقبل من غيرهم .

وروى عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المجوس : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، فدل على اختصاص الجزية بهم .

وروى عمرو بن شعيب - عن أبيه - عن جده - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ، فخصهم بالذكر لاختصاصهم بالحكم ولأنه وثني فلم يقر على حكمه بالجزية كالعربي ، ولأن من لم يقر بالجزية من العرب لم يقر بها من العجم كالمرتد ، ولأن لأهل الكتاب حرمتين .

إحداهما : حرمة الكتاب الذي نزل عليهم .

والثانية : حرمة دين الحق الذي كانوا عليه .

وهاتان الحرمتان معدومتان في عبدة الأوثان ، فافترقا في حكم الإقرار بالجزية .

فأما الجواب عن حديث ابن بريدة ، فمن وجهين :

أحدهما : تخصيص عمومه بأدلتنا .

والثاني : أنه لا يصح التعلق بظاهره حتى يقرن به إضمار ، فهم يضمرون أخذ الجزية منهم إذا كانوا عجما ، ونحن نضمر أخذ الجزية منهم إذا كانوا أهل كتاب ، ولو تكافأ الإضماران سقط الدليل ، واختيارنا أولى لثبوت حكمه عن إجماع .

وأما الجواب عن أخذها من المجوس ، فهو ما سنذكره من بعد في أن لهم كتابا .

وأما قياسهم على القتل ، فغير صحيح لأمرين :

أحدهما : أن القتل لا يبقى معه إقرار على الكفر ، وفي الجزية إقرار على الكفر فافترقا .

والثاني : أن القتل أغلظ من الجزية ، فلم يجز أن يلحق به ما هو أخف منه إذا كان محمولا على التغليظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية