الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الحكم الثاني : في العرب ، فاستدل من منع من قبوله جزيتهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا عرض نفسه في المواسم قبل هجرته على القبائل قال لهم : هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم العرب ، وأدت إليكم الجزية العجم ، فأضاف الجزية إلى العجم ونفاها عن العرب .

[ ص: 286 ] وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يجري على عربي صغار .

والجزية صغار بالنص ، وقد نفاه عنهم ، فلم يجزه أخذها منهم ، ولأن كل حرمة ثبتت بالإسلام منعت من قبوله الجزية كالإسلام ، ولأن كل من لم يجز استرقاقه لم تؤخذ جزيته كالمرتد .

ودليلنا قوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ، [ التوبة : 29 ] . فكان على عمومه من كل كتابي من عجمي وعربي ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من العرب ، فأخذها من أكيدر دومة بعد أسره ، وحمله إلى المدينة ، وكان من غسان أو من كندة ، وأخذها من أهل اليمن ، وأكثرهم عرب ، ومن أهل نجران ، وفيهم عرب ، ولأن كل من جاز إقراره على كفره جاز أخذ جزيته كالعجم ، ولأن وجوب القتل أغلظ من أخذ الجزية ، فلما لم يمنع النسب من القتل ، فأولى أن لا يمنع من الجزية ، ولأنه لما جاز أن يحقن بالجزية دم ضعفت حرمته من العجم ، فلأن يحقن بها دم من قويت حرمته من العرب أولى .

فأما الجواب عن الخبر الأول ، فهو أن المقصود به سرعة إجابة العرب إلى الإسلام ، وإبطاء أهل الكتاب عنه ، وهذا موجود ومعهود .

وأما الجواب عن قوله : لا يجري على عربي صغار ، فالقتل أغلظ ، وهو يجري عليه ، فكانت الجزية أقرب ، وهو محمول على أحد وجهين : إما صغار الاسترقاق .

والثاني : أن يكون محمولا على أهل مكة حين من عليهم بعد الفتح أنهم لا يغزون بعده ، وبه قال الشافعي .

فأما قول أبي يوسف : إنه لا تؤخذ الجزية من العرب ، فنحن كنا على هذا أحرص ، ولولا أن نأثم بثمن باطل لرددناه كمـا قال ، وأن لا يجري على عربي صغار ، ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما حكم به . فأما قياسهم على الإسلام فباطل : لأن الكفر ضد الإسلام ، فلم يجز أن يقاس عليه .

وأما قياسهم على المرتد ، فالمرتد لا يجوز أن يقر على ردته ، فلم يجز قبول جزيته ، والعربي يقر على كفره ، فجاز أخذ جزيته .

فأما استرقاقه ، ففيه قولان مضيا .

فأما قول الشافعي : " انتوت قبائل من العرب " ففيه تأويلان :

أحدهما : معـناه قربت من بلاد أهل الكتاب .

والثاني : اختلطت بأهل الكتاب ، فدانت دين أهل الكتاب ، فأخذها عمر بالشام [ ص: 287 ] من تنوخ وبهراء وبني تغلب ، فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه من بعدها على جواز أخذها من العرب كما جاز أخذها من غير العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية