الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولا نعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أحدا على أقل من دينار ، فمن أعطى منهم دينارا غنيا كان أو فقيرا في كل سنة قبل منه ولم يزد عليه ، ولم يقبل منه أقل من دينار من غني ولا فقير ، فإن زادوا قبل منهم " .

قال الماوردي : اختلف الفقهاء في أقل الجزية وأكثرها ، فذهب الشافعي إلى أن أقلها مقدر بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه من غني ولا فقير ، وأكثرها غير مقدر ، وهو موكل إلى اجتهاد الإمام .

فإن لم يجيبوا إلى الزيادة على الدينار من غني ولا فقير وجب على الإمام إجابتهم إليه ، وإن طبقوا أنفسهم بالغنى والتوسط ، والذي عاقدهم عليه .

وقال أبو حنيفة : هي مقدرة الأقل والأكثر بحسب طبقاتهم ، فيؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهما مصارفة اثنا عشر دينارا ، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهما ، ومن الفقير المعتمل اثنا عشر درهما .

وقال سفيان الثوري : لا يتقدر أقلها ، ولا أكثرها ، وهي موكولة إلى اجتهاد الإمام في أقلها وأكثرها ، فإن رأى الاقتصار على أقل من دينار جاز ، وإن رأى الزيادة على الأربعة فعل .

وقد حكي عن مالك كلا المذهبين من قول أبي حنيفة ، وقول سفيان .

واستدل أبو حنيفة على تقدير أقلها وأكثرها بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضرب الجزية على أهل الذمة فيما فتحه من سواد العراق ، على الفقير المعتمل اثنا عشر درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما ، وعلى الغني ثمانية وأربعون درهما عن رأي شاور فيه الصحابة ، فصار إجماعا ، ولأنه مال يتعين وجوبه بالحول ، فوجب أن يختلف بزيادة المال كالزكاة ، ولأن المأخوذ بالشرك صار جزية وخراجا ، فلما اختلف الخراج باختلاف المال وجب أن تختلف الجزية باختلاف المال .

واستدل الثوري بأن قال : الهدنة لما كانت موكولة إلى اجتهاد الإمام ، ولم يتقدر أقلها وأكثرها وجب أن تكون الجزية بمثابتها لا يتقدر أقلها وأكثرها .

ودليلنا ما رواه أبو وائل شقيق بن سلمة ، عن مسروق ، عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل حالم دينارا ، وعدله من المعافر ، [ ص: 300 ] ومعلوم أنهم كانوا على اختلاف في الغنى والتوسط فسوى بينهم ، ولم يفاضل .

وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح أكيدر دومة على نصارى أيلة ، وهم ثلاثمائة رجل على ثلاثمائة دينار ، فجعلها معتبرة بعددهم ، وليس يعتبرها بيسارهم وإعسارهم .

ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ جزية نصراني بمكة يقال له أبو موهب دينارا ، ولم يذكر يساره ولا إعساره ، فدل على استواء الحالين .

وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب - من كل حالم دينارا ، ولم يفضل فدل على التساوي .

ومن القياس أن كل من حقن دمه بالجزية جاز أن يتقدر بالدينار - كالمقل ، ولأن كل ما جاز أن يتقدر به جزية المقل جاز أن يتقدر به جزية المكثر كالأربعة ، ولأن حرمة دمهما واحدة ، فوجب أن تكون جزيتهما واحدة .

فأما الجواب عما فعله عمر ، فهذا أنه قدره عليهم عن مراضاة بينه وبينهم لا ينكر مثلها إذا فعلوه .

وقياسهم على الزكاة منتقض بزكاة الفطر التي لا تزيد زيادة المال ، ثم المعنى في الزكاة وجوبها في عين المال ، فجاز أن تختلف بقلته وكثرته ، والجزية في الذمة عن حقن الدم كالأجرة ، فلم تختلف بزيادة المال وكثرته كالإجارة .

وأما الجواب عن جمعهم بين الجزية والخراج ، فهو أن الخراج عند الشافعي أجرة عن أرض ذات منفعة ، فجاز أن يختلف باختلاف المنافع ، والجزية عوض عن حقن الدم والإقرار على الكفر ، وذلك غير مختلف باختلاف المال ، فلم يتفاضل بتفاضل المال .

وأما الجواب عن استدلال سفيان الثوري بالهدنة ، فهو أن الهدنة لما جاز أن تكون موقوفة على رأي الإمام في عقدها بمال وغير مال جاز عقدها على رأي الإمام في قدر المال ، والجزية لا تقف على رأيه في عقدها بغير مال ، فلم تقف على رأيه في تقدير المال .

التالي السابق


الخدمات العلمية