الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " في كتاب السير ما يدل على أنه لا جزية على فقير حتى يستغني ، ( قال المزني : ) والأول أصح عندي في أصله ، وأولى عندي بقوله " .

قال الماوردي : وأما المقل الذي يملك قدر الجزية ولا يملك ما سواها ، فهي عليه واجبة ، لقدرته على أدائها ، فأما الفقير الذي لا يملك قدر الجزية ، فضربان :

[ ص: 301 ] أحدهما : أن يكون معتملا يكسب بعمله في السنة قدر جزيته فاضلة عن نفقته ، فالجزية عليه واجبة .

والضرب الثاني : أن يكون غير معتمل لا يقدر على الاكتساب إلا بالمسألة لقدر قوته من غير فضل ، ففي وجوب الجزية عليه قولان :

أحدهما : وهو المنصوص عليه في كتاب الجزية ، وعامة كتبه أنها واجبة عليه ، ولا تعقد له الذمة إلا بها ، وهو اختيار المزني .

والقول الثاني : نص عليه في سير الواقدي : أنه لا جزية عليه ، ويكون في عقد الذمة تبعا لأهل المسكنة ، كالنساء والعبيد ، وبه قال أبو حنيفة ، احتجاجا بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طبق في الجزية أهل العراق ثلاث طبقات ، جعل أدناها الفقير المعتمل ، فدل على سقوطها عن غير المعتمل ، ولأنه مال يجب في كل حول ، فلم تجب على الفقير كالزكاة ، ولأن الجزية ضربان على الرءوس والأرضين ، فلما سقطت عن الأرض إذا أعوز نفقتها ، سقطت عن الرءوس إذا أعوز وجودها .

والدليل على وجوبها على الفقير : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] . فلما كان قتالهم عاما في الموسر والمعسر : وجب أن يكون ما جعله غاية في الكف عن قتالهم من بذل الجزية عاما في الموسر والمعسر : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل - حين بعثه إلى اليمن : خذ من كل حالم دينارا ، وقد علم أن فيهم فقيرا ، ولم يميزهم ، فدل على أخذها منهم .

فإن قيل : فالأمر بالأخذ في الكتاب والسنة مشروط بالقدرة ، ويسقط التكليف فيما خرج من القدرة .

قيل : هذا الأمر إنما توجه إلى الضمان دون الدفع : لأنه في ابتداء الحول ، والدفع يكون بعد الحول ، وقد يتوجه الضمان إلى المعسر ليدفعه إذا أيسر كسائر الحقوق .

ومن القياس أنه حر مكلف ، فلم يجز إقراره على كفره في دار الإسلام بغير جزية كالموسر ، وفيه احتراز من المرأة : لأنها تدخل في اللفظ المذكر ، ولأن كل من حل قتله بالأسر لم تسقط عنه الجزية بالفقر كالغني إذا افتقر ، ولأنه أحد سببي ما يحقن به الدم ، فوجب أن يقوى فيه الغني والفقير كالإسلام ، ولأن الجزية في مقابلة أمرين :

أحدهما : حقن الدم .

والآخر : الإقرار في دارنا على الكفر .

[ ص: 302 ] وما حقن به الدم لم يسقط بالإعسار ، كالدية .

وما استحق به المقام في مكان لم يسقط بالإعسار كالأجرة .

فأما الجواب عن فعل عمر - رضي الله عنه - فمن وجهين :

أحدهما : أن أخذها من الفقير المعتمل لا يوجب سقوطها عن غير المعتمل .

والثاني : أن المعتمل هو المكتسب بالعمل - وغير المعتمل قد يتكسب بالمسألة ، وهي عمل فصار كالمعتمل . والقياس على الزكاة فاسد من وجهين :

أحدهما : أن الزكاة تجب في المال ، فاعتبرناه في الوجوب ، والجزية تجب في الذمة ، فلم يعتبر المال في الوجوب .

والثاني : أن الجزية تجب على الفقير المعتمل ، ولا تجب عليه الزكاة ، فلم يجز اعتبارها بالزكاة .

وأما الجواب عن الجمع بين الجزية والخراج مع اختلاله من وجهين :

أحدهما : أن الخراج لا يسقط بالفقر ، فكذلك الجزية .

والثاني : أنه لما لم يسقط ما في مقابلة الجزية من حقن الدم في حق الفقير لم تسقط الجزية ، ولما سقط ما قي مقابلة الخراج من المنفعة سقط به الخراج .

التالي السابق


الخدمات العلمية