الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وإن أسلم وقد مضى بعض السنة أخذ منه بقدر ما مضى منها " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، إذا أسلم الذمي بعد وجوب الجزية عليه لم تسقط بإسلامه .

وقال أبو حنيفة : تسقط عنه بإسلامه استدلالا بقول الله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] . والمسلم لا صغار عليه ، وبقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، [ الأنفال : 38 ] . وقد انتهى بالإسلام ، فوجب أن يغفر له ما سلف من الجزية .

وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الإسلام يجب ما قبله .

وبما روى محارب بن دثار عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا جزية على مسلم ، وهذا نص .

ومن القياس : أنها عقوبة تتعلق بالكفر ، فوجب أن تسقط بالإسلام كالقتال . ولأن الجزية تؤخذ منه صغارا وذلة ، والمسلم لا صغار عليه ، فوجب سقوطها عنه .

ودليلنا : قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الزعيم غارم وقد ضمنها ، فوجب أن يلزمه غرمها .

[ ص: 314 ] ومن القياس : أنه مال استقر ثبوته في ذمته ، فوجب أن لا يسقط بإسلامه كالديون .

فإن قيل : يبطل بالزوجين الوثنيين إذا أسلم الزوج منهما قبل الدخول سقط عنه صداقها بإسلامه .

قيل : صداقها إنما بطل بوقوع الفرقة كما يبطل صداقها بالردة ، لوقوع الفرقة ألا ترى أن من تكلم في صلاته ، فبطلت بكلامه حل له الكلام ببطلان الصلاة لا بالكلام ؟

فإن قيل : إنما لم يسقط عنه الدين بإسلامه : لأنه يجوز أن يثبت ابتداؤه في إسلامه ، وسقطت الجزية بإسلامه : لأنه لا يجوز أن يثبت ابتداؤها في إسلامه .

فالجواب عنه : أنه تبطل علة الأصل بالموت : لأنه يمنع من ابتداء الدين ولا يمنع من استدامته ، وتبطل علة الفرع بالاسترقاق ، ويمنع الإسلام من ابتدائه ، ولا يمنع من استدامته ، ولأن الجزية والخراج مستحقان بالكفر ، لما لم يسقط بالإسلام ما وجب من الخراج لم يسقط به ما وجب من الجزية .

وتحريره قياسا : أنه مال مستحق بالكفر ، فلم يسقط ما وجب منه بالإسلام كالخراج ، وعبر عنه بعض أهل خراسان بأن ما وجب على الكافر بالالتزام لم يسقط بالإسلام كالخراج ، ولأن الجزية معاوضة عن حقن الدم والمساكنة ، فلم يسقط ما وجب منها بالإسلام كالأجرة .

وأما الجواب عن قوله تعالى : وهم صاغرون ، [ التوبة : 129 ] . فهو أن الصغار علة في الوجوب دون الأداء ، ووجوبها يسقط بالإسلام ، وأداؤها لا يسقط .

وأما الجواب عن قوله تعالى : يغفر لهم ما قد سلف ، [ الأنفال : 38 ] . فهو أن الغفران مختص بالآثام دون الحقوق .

وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام يجب ما قبله ، فهو أنه يقطع وجوب ما قبله ، ولا يرفع ما وجب منه .

وأما الجواب عن قوله : لا جزية على مسلم فهو أنه محمول على ابتداء الوجوب دون الاستيفاء .

وأما الجواب عن قياسهم على القتل ، فهو أن الجزية معاوضة ، وليست عقوبة ، ثم هو منتقض بالاسترقاق لا يبطل بالإسلام ، وإن وجب بالكفر ، ثم المعنى في القتل أنه وجب بالإصرار على الكفر ، وقد زال الإصرار بالإسلام ، فلذلك سقط . والجزية وجبت معاوضة عن المساكنة ، وتلك المساكنة لم تنزل ، فلم تسقط بالإسلام .

[ ص: 315 ] وأما الجواب عن قولهم : إنهم صغار ، فهو أنه منتقض بالاسترقاق ، وبالخراج ، ويفسد بالحدود ، وهي عقوبة وإذلال ، ولا تسقط بالعقوبة بعد الوجوب على أن الصغار عليه ، في الوجوب دون الاستيفاء وقد يمنع الإسلام من وجوب ما لا يمنع من استيفائه كذلك الجزية .

التالي السابق


الخدمات العلمية