الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الحجاز فلا يجوز أن يستوطنه مشرك ، من كتابي ولا وثني ، وجوزه أبو حنيفة كسائر الأمصار احتجاجا بإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم إلى أن قبضه الله تعالى إليه ، ولأن كل أرض حل صيدها حل لهم استيطانها كغير الحجاز .

ودليلنا : ما رواه عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كانت آخر ما عهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال : لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وهذا نص .

ولما قبضه الله تعالى قبل عمله به لم يسقط حكم قوله ، وتشاغل أبو بكر في أيامه مع قصرها بأهل الردة ، ومانعي الزكاة ، وتطاولت الأيام بعمر - رضي الله عنه - وتكاملت له جزيرة العرب ، وفتح ما جاورها ، نفذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، فاجتمع رأيه ، ورأي الصحابة - رضي الله عنهم - على إجلائهم وكان فيهم تجار وأطباء ، وصناع ، يحتاج المسلمون إليهم : فضرب لمن قدم منهم تاجرا ، وصانعا مقام ثلاثة أيام ينادى فيهم ، بعدها اخرجوا ، وهنا إجماع بعد نص لا يجوز خلافهما ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود خيبر حين ساقاهم على نخلها : أقركم ما أقركم الله فدل على أن مقامهم غير مستدام ، وأن لحظره فيهم حكما مستجدا .

وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لئن عشت إلى قابل لأنفين اليهود من جزيرة العرب ، فمات قبل نفيهم ، ولأن الحجاز لما اختص بحرم الله تعالى ، ومبعث رسالته ومستقر دينه ، ومهاجرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - صار أشرف من غيره ، فكانت حرمته أغلظ ، فجاز أن يصان عن أهل الشرك كالحرم .

[ ص: 337 ] فإذا ثبت حظر استيطان أهل الذمة للحجاز ، فيجوز أن يدخلوه دخول المسافرين لا يقيموا من موضع منه أكثر من ثلاثة أيام : لأن عمر حين أجلاهم ضرب لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلاثة أيام ، فكان هذا القدر مستثنى من الحظر ، استدل به على أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب محمولة على الاستيطان دون الاجتياز : ولأن الله تعالى يقول : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [ التوبة : 6 ] ويكفيه أن يهتدي بسماع كلام الله تعالى في مدة ثلاث : ولأنه لما انخفضت حرمة الحجاز عن الحرم ، وفضلت على غيره أبيح لهم من مقام ما لم يستبيحوه في الحرم ، وحرم عليهم من استيطان الحجاز ما استباحوه في غيره ، فإذا كان كذلك اختصت الإباحة بمقام المسافر ، وهو ثلاثة أيام لا يتجاوزونها ، ويمنعون من دخول الحجاز ، وإن كانوا أهل ذمة إلا بإذن الإمام : لأن مقصوده التصرف دون الأمان .

فلو أذن لهم واحد من المسلمين لم يجز أن يدخلوا بإذنه ، وإن كان لو أذن لحربي جاز أن يدخل دار الإسلام بإذنه .

والفرق بينهما : أن المقصود بإذنه للحربي أمانه ، وأمان الواحد من المسلمين يجوز ، والمقصود بإذنه للذمي في دخول الحجاز التصرف المقصور على إذن الإمام ، فلو دخل ذمي الحجاز بغير إذن عزر وأخرج ولا يغنم ماله : لأن له بالذمة أمانا ولو دخل حربي بلاد الإسلام بغير إذن غنم ماله : لأنه لا أمان له ، ويجوز إذا أقاموا ببلد من الحجاز ثلاثا أن ينتقلوا إلى غيره ، فيقيموا فيه ثلاثا ، ثم كذلك في بلد بعد بلد ، فإن لم يقض حاجته في الثلاث ، واحتاج إلى زيادة مقام : لاقتضاء الديون منح ، وقيل له : وكل من يقبضها لك ، ولو مرض ، ولم يقدر على النهوض مكن من المقام : لأنها حال ضرورة حتى يبرأ ، فيخرج بخلاف الدين الذي يقدر على قبضه ، فإن مات في الحجاز لم يدفن فيه : لأن الدفن مقام تأبيد إلا أن يتعذر إخراجه ، ويتغير إن استبقى من غير دفن فيدفن في الحجاز للضرورة كما يقيم فيه مريضا .

فأما الحجاز ، فهو بعض جزيرة العرب ، ولأن كل قول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجه إلى جزيرة العرب مختلف فيه ، فهي في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى أقصى ريف العراق في الطول ، ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام في العرض .

وقال أبو عبيدة : جزيرة العرب في الطول ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن ، وفي العرض ما بين رمل إلى يبرين إلى منقطع السماوة ، وفي جزيرة العرب أرض نجد وتهامة ، وحد نجد وتهامة مختلف فيه ، فقال الأصمعي : إذا خلفت عجاز مصعدا ، فقد أنجدت ، فلا تزال منجدا حتى تنحدر في ثنايا ذات عرق ، فإذا فعلت فقد أتهمت ، ولا تزال متهما في ثنايا العرج حتى يستقبلك الأراك والمدارج .

[ ص: 338 ] وقال غيره : جبل السراة في جزيرة العرب وهو أعظم جبالها يقبل من ثغرة اليمن حتى ينتهي إلى وادي الشام فما دون هذا الجبل في غرسية من أسياف البحر إلى ذات عرق ، والجحفة هو تهامة ، وما دون هذا الجبل في شرقي ما بين أطراف العراق إلى السماوة ، فهو نجد .

وأما الحجاز فهو حاجز بين تهامة ونجد ، وهو منهما ، وحده مختلف فيه ، فقال قوم : هو ما احتجز بالجبل في شرقيه وغربيه عن بلاد مذحج إلى فيد .

وقال آخرون : هو اثنتا عشرة دارا للعرب .

فالحد الأول : بطن مكة ، وأعلا رمة وظهره ، وحرة ليلى .

والحد الثاني : يلي الشام شفي وبدا ، وهما جبلان .

والحد الثالث : يلي تهامة بدر ، والسقيا ، ورهاط ، وعكاظ .

والحد الرابع : ساكة وودان .

واختلف في تسميته بالحجاز ، فقال الأصمعي : لأنه حجز بين نجد وتهامة .

وقال ابن الكلبي : سمي حجازا لما أحجز من الجبال ، وأما غير الحجاز فضل من بلاد الإسلام ، فمن دخلها من المشركين بغير ذمة ولا عهد فهو حرب كالأسرى يغنم ويسبى ، ويكون الإمام فيه مخيرا كتخييره في الأسير بين الأحكام الأربعة من القتل أو الأسر أو المن أو الفداء ، ويجوز أن يعفو من سبي ذريته بخلاف السبايا في الحرب : لأن الغانمين قد ملكوهم : فلا يصح العفو عنهم إلا بإذنهم ، وذرية هذا الداخل بغير عهد لم يملكهم أحد ، فجاز فوق الإمام .

فأما من دخل دار الإسلام بأمان ، فضربان : أهل ذمة ، وأهل عهد .

فأما أهل الذمة ، فهو المستوطن ، ولا يجوز استيطانهم إلا بجزية إذا كانوا أهل كتاب ، أو شبهة كتاب .

وأما أهل العهد ، فهو الداخل إلى بلاد الإسلام بغير استيطان ، فيكون مقامهم مقصورا على مدة لا يتجاوزونها ، وهي أربعة أشهر لقول الله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة : 2 ]

فأما مدة سنة ، فلا يجوز أن يقيموها إلا بجزية ، وفي جواز إقامتهم بغير جزية فيما بين أربعة أشهر وبين سنة قولان :

أحدهما : يجوز لأنها دون السنة كالأربعة .

[ ص: 339 ] والقول الثاني : لا يجوز : لأنه فوق الأربعة كالسنة ، وسواء كانوا من أهل الكتاب أو لم يكونوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية