الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حال المسلمين عند إرادة الهدنة من ثلاثة أحوال :

أحدهما : أن تكون بهم قوة ، وليس لهم في الموادعة منفعة ، فلا يجوز للإمام أن يهادنهم وعليه أن يستديم جهادهم : لقول الله تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران : 139 ] .

والحال الثانية : أن يكون بهم قوة لكن لهم في الموادعة منفعة ، وذلك بأن يرجوا بالموادعة إسلامهم ، وإجابتهم إلى بذل الجزية ، أو يكفوا عن معونة عدو ذي شوكة أو يعينوه على قتال غيرهم من المشركين إلى غير ذلك من منافع المسلمين ، فيجوز أن يوادعهم مدة أربعة أشهر ، فما دونها : لقول الله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة : 1 ] وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفوان بن أمية أربعة أشهر ، فإن أراد الإمام أن يبلغ بمدة موادعتهم في هذه الحال سنة لم يجز : لأنها مدة الجزية التي لا يجوز أن يقر فيها مشرك إلا بها ، فأما ما دون السنة وفوق أربعة أشهر ، ففي جواز موادعتهم قولان :

أحدهما : نص عليه هاهنا ، وفي الجزية من كتاب الأم أنه لا يجوز موادعتهم أكثر من أربعة أشهر : لقول الله تعالى : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فجعلها حدا لغاية الموادعة .

والقول الثاني : نص عليه في سير الواقدي ، يجوز أن يوادعهم ما دون السنة ، وإن زاد على أربعة أشهر : لأنها دون مدة الجزية كالأربعة مع عموم قول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] .

والحال الثالثة : أن لا يكون بالمسلمين قوة ، وهم على ضعف يعجزون معه عن قتال المشركين فيجوز أن يهادنهم الإمام إلى مدة تدعوه الحاجة إليها أكثرها عشر سنين : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشا عام الحديبية عشر سنين لا أغلال فيها ، ولا أسلال ، ودامت هذه المهادنة سنتين حتى نقضوها فبطلت فإن احتاج الإمام إلى مهادنتهم أكثر منها لم يجز : لأنها مخصوصة عن حظر ، فوجب الاقتصار على مدة الاستئناف والتخصيص ، وقيل للإمام : اعقد الهدنة عشر سنين ، فإذا انقضت والحاجة باقية استأنفتها عشرا ثانية ، فإن عقدها على أكثر من عشر سنين بطلت الهدنة فيما زاد على العشر ، وفي بطلانها في العشر قولان ، من تفريق الصفقة :

[ ص: 352 ] أحدهما : تبطل إذا منع تفريقها .

والثاني : تصح إذا أجيز تفريقها ، وهو المنصوص ، وهكذا إن دعته الحاجة أن يهادنهم خمس سنين لم يجز أن يهادنهم أكثر منها ، فإن فعل كان ما زاد على الخمس باطلا ، وفي بطلان الهدنة في الخمس قولان . ولو هادنهم عشر سنين لحاجة دعت إليها ثم ارتفعت الحاجة كانت الهدنة باقية إلى انقضاء مدتها بعد زوال الحاجة إليها ، وإن لم يجز أن يبتدئ بها في هذه الحال التزاما لما استقر من عقدها بقوله تعالى : أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية