الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " فإن أراد أن يهادن إلى غير مدة على أنه متى بدا له نقض الهدنة فجائز ، وإن كان قويا على العدو لم يهادنهم أكثر من أربعة أشهر لقوله تعالى لما قوي الإسلام براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين الآية ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لصفوان بعد فتح مكة بسنين أربعة أشهر لا أعلمه زاد أحدا بعد قوة الإسلام عليها " .

قال الماوردي : وهذا صحيح .

يجوز في الهدنة أن تكون غير مقدرة المدة إذا علقت بشرط أو على صفة : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وادع يهود خيبر قال : أقركم ما أقركم الله ، ويكون الإمام مخيرا فيها إذا أراد نقضها ، وليست من عقود المعاوضات التي تمنع الجهالة فيها ، وإذا جاز إطلاقها بغير مدة لم يجز أن يقول لهم : أقركم ما أقركم الله ، وإن قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر : لأن الله تعالى يوحي إلى رسوله مراده دون غيره ، وكذلك لو قال : أقركم ما شئت فيجوز ، ويكون موقوفا على مشيئته ، فيما يراه صلاحا من استدامة الهدنة أو نقضها ، فإن عقدها على مشيئتهم لم يجز : لأنهم يصيرون متحكمين على الإسلام وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام يعلو ولا يعلى " : وإن عقدها الإمام على مشيئة غيره من المسلمين جاز إذا اجتمعت فيه ثلاثة شروط :

أحدها : أن يكون من ذوي الاجتهاد في أحكام الدين .

والثاني : أن يكون من ذوي الرأي في تدبير الدنيا .

والثالث : أن يكون من ذوي الأمانة في حقوق الله تعالى وحقوق عباده .

فإن تكاملت فيه صح وقوف الهدنة على مشيئته ، وإن أخل بشرط منها لم يصح ، فإذا انعقدت نظر : [ ص: 353 ] فإن كان من ولاة الجهاد عمل على رأيه في استدامة الهدنة بالموادعة أو نقضها بالقتال ، ولم يلزمه استئذان الإمام في الحالين ، وإن لم يكن من ولاة الجهاد جاز له استدامتها بغير إذن الإمام ، ولم يكن له نقضها إلا بإذن الإمام : لأنه موافق في الاستدامة ، ومخالف في النقض ، وإذا كان كذلك لم يخل حاله وحال الإمام من أربعة أحوال :

أحدها : أن يتفقا على استدامتها فتلزم .

والثاني : أن يتفقا على نقضها فتنحل .

والثالث : أن يرى المحكم نقضها ، ويرى الإمام استدامتها ، فتغلب استدامة الإمام ، ويصير كالمبتدئ بها .

والرابع : أن يرى المحكم استدامتها ، ويرى الإمام نقضها ، فينظر فإن كان لعذر يغلب نقض الإمام ، وإن كان لغير عذر غلب استدامة المحكم كالمدة المقدرة .

ولو أطلق الهدنة من غير شرط ، أو على غير صفة ، فقال : قد هادنتكم لم يجز : لأن إطلاقها يقتضي التأبيد ، وهو لو أبدها بطلت كذلك إذا أطلقها ، وإذا أراد الإمام نقض العهد لم يبدأ بقتالهم إلا بعد إنذارهم وإعلامهم ، لقول الله تعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ الأنفال : 58 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية