الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر هذا التفصيل ، فالكلام فيه يشتمل على فصلين :

أحدها : في النساء .

والثاني : في الرجال .

فأما الفصل الأول في النساء ، فليس لهن إلا حال واحدة في المنع من ردهن ، فإذا منع الإمام منه نظر في الطالب لهن :

فإن كان غير زوج من ابن أو أخ أو عم ، فلا شيء له إذا امتنع : لأنه لا يملك عن بضعها بدلا .

وإن كان الطالب لها زوجها قيل له : إن أسلمت في عدتها كنت على نكاحك لها ، وإن لم تسلم منعت منها ، ونظر في مهرها ، فإن لم يدفعه إليها لم يرجع به ، وإن دفعه إليها ، فعن رجوعه به قولان بناء على الاختلاف المتقدم في امتناع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ردهن ، هل كان لنسخ بعد الإباحة أو كان مع تقدم الحظر : لأن الله تعالى أوجب رد المهر في عقد هدنته ، فكان مستحقا في منعه ، وإن لم يدفعه لم يطالب .

[ ص: 362 ] فإن قيل : إنه اشترط ردهن مع إباحته ، ثم نسخه الله تعالى بعد هدنته ، فلا مهر لزوج المسلمة من بعده : لأنه لا يجوز اشتراط ردها عليه : لما استقر من تحريمه .

وإن قيل : إن حظره كان متقدما ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط ردهن أو شرطه سهوا أو مضطرا وجب لزوج المسلمة في هدنة الإمام بعده الرجوع بمهرها : لأن ردهن في الحالين محظور ، والشرط فيهما ممنوع ، فصار القولان في رد المهر مبنيين على هذين :

أحدهما : وهو الأصح ، واختاره المزني ، وبه قال أبو حنيفة ومالك : لا مهر له ، ووجهه شيئان :

أحدهما : أنه لما لم يرجع به غير زوجها وأهلها لم يرجع به زوجها كالنفقة والكسوة .

والوجه الثاني : لما لم ترجع زوجة من أسلم بما استحقته من المهر وجب أن لا يرجع زوج من أسلمت بما دفعه من المهر ، لتكافئهما في النكاح .

والقول الثاني : وبه قال عطاء : له الرجوع بالمهر : لأمرين :

أحدهما : عموم قوله تعالى : وآتوهم ما أنفقوا [ الممتحنة : 10 ] فاقتضى أن يستوي فيه حكم الجميع .

والثاني : أن عقد الهدنة قد أوجب الأمان على الأموال ، ويضع الزوجة في حكم المال : لصحة المعاوضة عليه نكاحا وخلعا ، فاقتضى أن يجب في المنع منه الرجوع ببدله ، وهو المهر وعلى هذا القول يكون التفريع ، فيكون استحقاق مهرها معتبرا بتسعة شروط :

أحدها : أن يكون الطالب لها زوجها ، فإن طلبها غيره من أهلها لم يستحق مهرها : لأنه لا يملك منافع بضعها ، فإن ادعى زوجيتها فصدقته قبل قولها ، وإن أنكرته لم تقبل دعواه إلا بشاهدين من عدول المسلمين يشهدان بنكاحه ، ولا يقبل منه شاهد وامرأتان ، ولا شاهد ويمين : لأنها بينة على عقد نكاح .

والشرط الثاني : أن يكون قد ساق إليها مهرها ، فإن لم يسقه لم يستحقه ، وقولها في قبضه مقبول ، فإن أنكرته لم يجب عليها يمين : لأن رده مستحق على غيرها ، وطولب الزوج بالبينة ، ويقبل منه شاهد وامرأتان ، وشاهد ويمين : لأنها بينة على مال ، فإن كان ما دفعه من المهر حراما كالخمر والخنزير لم يستحق الرجوع بمهرها : لأنه دفع ما لا يستحق فيه مثل ، ولا قيمة .

والشرط الثالث : أن تكون قد هاجرت بإسلامها إلى بلد الإمام أو من ينوب عنه وفي هذا النائب عنه وجهان :

[ ص: 363 ] أحدهما : هو النائب عنه في عقد الهدنة لمباشرته لها .

والوجه الثاني : النائب عنه في بيت المال : لأن المهر يستحق فيه ، فإن هاجرت إلى غير بلده لم يستحق مهرها لعدم من ينفذ تصرفه في بيت المال .

والشرط الرابع : أن يستقر إسلامها بالبلوغ والعقل ، فإن كانت صغيرة أو مجنونة ، وقف أمرها على البلوغ والإفاقة ، ومنع منها : لئلا تفتن عن دينها إذا بلغت أو أفاقت ، فإن صبر الزوج منتظرا يمنع من المهر ، فإن بلغت الصغيرة ، وأفاقت على الإسلام دفع إليها مهرها ، وإن وصفت الكفر لم يدفع إليها مهرها ، ويمكن منها .

وإن امتنع من الصبر والانتظار ، وقال : إما التمكين منها أو دفع مهرها ، ففيه وجهان :

أحدهما : يجبر على الصبر انتظارا لها ، ولا يمكن منها : لجواز إسلامها ، ولا يدفع إليه مهرها : لجواز كفرها .

والوجه الثاني : يدفع إليه مهرها : لأنه مستحق لا يعجل له أيسرهما ، وروعي حالها إذا بلغت ، فإن أقامت على الإسلام استقر ملكه على المهر ومنعه منها ، وإن وصفت الكفر استرجع منه مهرها ، ومكن منها .

فأما المجنونة ، فإن كانت قد وصفت الإسلام قبل جنونها دفع إليه مهرها ، وإن وصفته في جنونها كانت كالصغيرة في انتظار إفاقتها .

والشرط الخامس : أن تكون باقية الحياة لم تمت : ليصير الزوج ممنوعا منها ، فإن ماتت نظر في موتها ، فإن كان بعد طلب الزوج لها استحق مهرها : لأنه قد استوجبه بالطلب فلم يسقط بالموت ، وإن ماتت قبل طلبه ، فلا مهر له : لأنه لم يتقدم منع يستحق به المهر ، وكذلك لو مات : الزوج دونها ، وكان قبل طلبه ، فلا مهر لوارثه ، وإن مات بعد طلبه استحق وارثه المهر لوجوبه بالمنع قبل الموت .

والشرط السادس : أن تكون باقية في عدتها ، فإن طلبها بعد انقضاء العدة ، فلا منزلة لوقوع الفرقة بانقضائها إلا أن يطلبها في العدة ، ولا يسقط المهر بتأخيره إلى انقضائها كما لا يسقط بالموت .

والشرط السابع : أن تكون مقيمة على إسلامها ، فإن ارتدت عنه منع منها ، وفي استحقاقه لمهرها لهذا المنع وجهان :

أحدهما : يستحقه لمنعه منها بحرمة الإسلام كالمسلمة .

والوجه الثاني : لا تستحقه : لأنه منع لإقامة الحد وليس يمنع لثبوت الإسلام ، والأول أصح لأن فرج المرأة المرتدة محظور على الكافر كالمسلمة .

[ ص: 364 ] والشرط الثامن : أن يكون الزوج مقيما على كفره : ليكون على المنع منها ، فإن أسلم ، فعلى ضربين :

أحدهما : أن يكون إسلامه قبل انقضاء عدتها ، فيكونان على النكاح ، ولا مهر له لتمكينه منها ، فلو كان قد أخذ المهر قبل إسلامه استرجع منه : لئلا يكون مالكا لبضعها بغير مهر .

والضرب الثاني : أن يكون إسلامه بعد انقضاء عدتها ، فقد بطل النكاح ، بانقضائها ثم ينظر في المهر : فإن كان قد أخذ بالطلب قبل الإسلام لم يسترجع منه ، وصار بالقبض مستهلكا في الشرك ، وإن لم يأخذ المهر قبل إسلامه نظر .

فإن لم يكن قد طلبها حتى أسلم ، فلا مهر له : لأنه غير ممنوع أن يستأنف نكاحها ، وإن قدم الطلب ، ولم يأخذ منها حتى أسلم ، ففي استحقاقه لمهرها وجهان :

أحدهما : يستحقه لوجوبه بالطلب .

والوجه الثاني : لا يستحقه : لأنه ممكن من نكاحها إن أحب .

والشرط التاسع : أن يكون الزوج مقيما على نكاحها ، فإن طلقها ، فضربان :

أحدهما : أن يكون طلاقه بعدم المطالبة لها ، فله المهر : لأنه قد استحقه بالمنع ، ولا يسقط بالطلاق كما لا يسقط بالموت .

والضرب الثاني : أن يكون طلاقه قبل المطالبة بها ، فهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون بائنا بثلاث أو خلع ، فلا مهر له : لأنه راض بتركها .

والضرب الثاني : أن يكون طلاقه رجعيا ، فهو موقوف على رجعته ، فإن لم يراجع ، فلا مهر له : لتركها عن رضى ، وإن راجعها ، فله المهر لارتفاع الطلاق بالرجعة ، فصار باقيا على التمسك بها . فإذا استقر مهرها باستكمال هذه الشروط التسعة ، وكانت المطالبة بزوجة أو زوجتين أو ثلاث أو أربع ، حكم له بمهورهن كلهن ، ولو طالب بعشر زوجات أسلمن عنه وقد نكحهن في الشرك قيل له : اختر من جملتهن أربعا ، ولك مهورهن ، ولا مهر لك فيما عداهن ، لاستقرار الشرع على تحريم من زاد على الأربع ، وإذا كان المهر مستحقا ، فقد قالأبو حامد الإسفراييني : المستحق فيه هو القدر الذي دفعه من قليل وكثير دون مهر المثل ، لقول الله تعالى : وآتوهم ما أنفقوا [ الممتحنة : 10 ] والذي عندي أنه يستحق أقل الأمرين من مهر مثلها أو ما دفع ، فإن كان أقلها مهر مثلها رجع به ، ولم يرجع بما غرمه من الزيادة عليه : لأنه بدل البضع الفائت عليه .

[ ص: 365 ] وإن كان أقلها ما غرمه رجع به ، ولم يرجع بالزيادة عليه : لأنه لم يغرمها ، وسواء في استحقاقه المهر بين أن يشترط ردهن في عقد الهدنة أو لا يشترط ، إلا أن الهدنة تبطل باشتراط ردهن ولا تبطل إن لم يتشرط .

التالي السابق


الخدمات العلمية