الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حالهم في نقض العهد من أحد أمرين :

[ ص: 380 ] إما أن يكون من جميعهم أو من بعضهم .

فإن كان من جميعهم ، صار جميعهم حربا ، وليس لواحد منهم أمان على نفس ولا مال
.

وإن نقضه ، لم يخل حال الناقض من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يظهر منهم الرضا بنقضه في قول أو فعل ، فينتقض عهدهم بالرضا كما انتقض به عهد المباشرة ، ويصير جميعهم حربا .

والقسم الثاني : أن يظهر منهم الكراهة لنقضه بقول أو فعل ، فيكونوا على عهدهم ، ولا ينتقض فيهم بنقض غيرهم ، قال الله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء [ الأعراف : 165 ] .

والقسم الثالث : أن يمسكوا عنه ، فلن يظهر منهم رضا به ، ولا كراهة له في قول ، ولا فعل ، فيكون إمساكهم نقضا لعهدهم . قال الله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ الأنفال : 25 ] . وكذلك كانت سنة الله تعالى في عاقر ناقة صالح : باشر عقرها أحيمر وهو القدار بن سالف ، وأمسك قومه عنه : فأخذ الله جميعهم بذنبه ، فقال تعالى : فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها ، [ الشمس : 14 ، 15 ] . وفي قوله : فسواها ثلاثة تأويلات :

أحدها : فسوى بينهم في الهلاك .

والثاني : فسوى بهم الأرض .

والثالث : فسوى بهم من بعدهم من الأمم .

وفي قوله : ولا يخاف عقباها ثلاثة تأويلات :

أحدها : ولا يخاف الله عقبى ما صنع بهم من الهلاك .

والثاني : ولا يخاف الذي عقرها عقبى ما صنع من عقرها .

والثالث : ولا يخاف صالح عقبى عقرها : لأنه قد أنذرهم ، ونجاه الله حين أهلكهم ، وقد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود بني النضير ، وهم بعضهم بقتله ، فجعله نقضا منهم ، لعهده ، فغزاهم ، وأجلاهم .

ووادع يهود بني قريظة ، فأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق .

وقيل : إن الذي أعانه منهم ثلاثة : حيي بن أخطب ، وأخوه ، وآخر فنقض به عهدهم ، وغزاهم ، حتى قتل رماتهم ، وسبى ذراريهم .

وهادن قريشا في الحديبية ، وكان بنو بكر في حلف قريش ، وخزاعة في حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحارب بنو بكر خزاعة ، وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة ، وأمسك عنهم سائر قريش ، فجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقضا لعهد جميعهم ، فسار إليهم [ ص: 381 ] محاربا ، وأخفى عنهم أثره حتى نزل بهم ، وفتح مكة ، فدل على أن الممسك يجري عليه في نقض العهد حكم المباشر ، ولأنه لما كان عقد بعضهم للهدنة موجبا لأمان جميعهم ، وإن أمسكوا كان نقض بعضهم موجبا لحرب جميعهم إذا أمسكوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية