الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " فإن انفضوا بعد إحرامه بهم ففيها قولان : أحدهما إن بقي معه اثنان حتى تكون صلاته صلاة جماعة أجزأتهم الجمعة .

والقول الآخر : لا تجزئهم بحال حتى يكون معه أربعون تكمل بهم الصلاة . ( قال المزني ) : قلت أنا : ليس لقوله إن بقي معه اثنان أجزأتهم الجمعة معنى ؛ لأنه مع الواحد والاثنين في الاستقبال في معنى المنفرد في الجمعة ولا جماعة تجب بهم الجمعة عنده أقل من الأربعين ، فلو جازت باثنين لأنه أحرم بأربعين جازت بنفسه لأنه أحرم بالأربعين ، فليس لهذا وجه في معناه هذا والذي هو أشبه به إن كان صلى ركعة ثم انفضوا صلى أخرى منفردا كما لو أدرك معه رجل ركعة صلى أخرى منفردا ولا جمعة له إلا بهم ولا لهم إلا به ، فأداؤه ركعة بهم كأدائهم ركعة به عندي في القياس ومما يدل على ذلك من قوله أنه لو صلى بهم ركعة ثم أحدث بنوا وحدانا ركعة وأجزأتهم " .

قال الماوردي : وصورتها : أن يحرم الإمام بصلاة الجمعة مع أربعين رجلا فصاعدا ، ثم ينفضون عنه بعد الإحرام ، لعارض من فتنة أو غيرها ، بعد سلامة الخطبة ، ففيها ثلاثة أقاويل : أحدها : أن العدد شرط في افتتاحها واستدامتها ، فمتى نقص من الأربعين واحد بنى على الظهر . والقول الثاني : أن العدد شرط في افتتاحها ، فإن بقي معه بعد انفضاضهم اثنان فصاعدا بنى على الجمعة .

وهذان القولان نص عليهما في كتاب " الأم " ، ونقلهما المزني إلى هذا الموضع .

[ ص: 414 ] والقول الثالث : نص عليه في القديم : أنه إن بقي معه بعد انعقادها بالأربعين واحد بنى على الجمعة ، وإن بقي وحده صلى ظهرا أربعا .

فإن قيل : إن العدد شرط في افتتاحها واستدامتها وهو أصح الأقاويل وأولاها فوجهه : شيئان :

أحدهما : أن كل شرط اختص بالجمعة في افتتاحها فإنه يجب استدامته إلى إثباتها ، كسائر الشروط من الوقت والاستيطان وغيره .

والثاني : أن خطبة الجمعة أخف حكما من صلاة الجمعة : لأنه يجوز أن يصلي الجمعة من لم يسمع الخطبة ، فلما كان العدد شرطا في استدامة الخطبة كان أولى أن يكون شرطا في استدامة الجمعة .

فإن قيل إن العدد شرط في افتتاحها دون استدامتها ومتى بقي معه اثنان جاز أن يبني على الجمعة فوجهه : تقديم الدلالة على أن العدد ليس بشرط في استدامتها ، ثم الدلالة على اعتبار الاثنين .

فأما الدلالة على أن العدد ليس بشرط في الاستدامة فهو :

أن الإمام لا يمكنه الاحتراز منه ويشق عليه ضبطه فلم يكن من أجزائه ، وهو إذا أحرم لم يمكنه الاحتراز من انفضاضهم ، ويمكنه اعتبار العدد عند الإحرام : فلذلك كان العدد شرطا في افتتاحها ، لعدم المشقة في اعتباره ولم يكن شرطا في الاستدامة لإدراك المشقة فيه ، وتعذر الاحتراز منه ، فشابه النية لما لم يشق عليه اعتبارها مع الإحرام كان مؤخذا بها ، ولما شق عليه استدامتها في جميع الصلاة ، لأنها قد تعزب عنه لم يكن مؤاخذا بها إذا عزبت في أثنائها ، ولهذا المعنى فارق الوقت ، لأن اعتبار استدامته يمكن ، ولأن الشيء قد يكون شرطا في ابتداء الصلاة دون استدامتها وإثباتها ، ألا ترى أن عدم الماء شرط في افتتاح الصلاة بالتيمم ، وليس بشرط في استدامتها ، كذلك العدد في الجمعة .

فإذا ثبت أن العدد المعتبر في افتتاحها ليس بشرط في استدامتها فالدلالة على اعتبار الاثنين ، وجواز إتمام الجمعة بها هو :

أن الجمعة تفتقر إلى الجماعة ، وأقل الجمع الكامل ثلاثة .

وإذا قيل إنه متى بقي معه واحد جاز له البناء على الجمعة فوجهه : أنه لما بطل أن يكون العدد المعتبر في افتتاحها شرطا في استدامتها ، وافتقرت إلى الجماعة ، كان أقلها في الشرع اثنين : لقوله صلى الله عليه وسلم : الاثنان فما فوقهما جماعة .

[ ص: 415 ] فعلى هذا هل يعتبر في الواحد أو الاثنين وصف من تجب عليه الجمعة أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه لا بد أن يكون ممن تجب عليه الجمعة حرا ، بالغا ، مقيما . فإن كان عبدا أو صبيا أو مسافرا أو امرأة بنى على الظهر ، وإنما كان كذلك لأنه عدد معتبر في صلاة الجمعة : فوجب أن يعتبر فيه أوصاف من تجب عليه الجمعة كالأربعين .

والوجه الثاني : لا يلزم اعتبار هذا الوصف ، ومتى كان الباقي عبدا أو امرأة أو مسافرا جاز له البناء على الجمعة : لأنه لما عدل به عن حكم العدد المعتبر في افتتاح الجمعة إلى العدد المعتبر في صحة الجماعة لم يعتبر وصف من تجب عليه الجمعة ، واعتبر حال من تصح به الجماعة .

فأما المزني فإنه خرج قولا رابعا : أنه إن كان الإمام قد أدرك معهم ركعة بنى على الجمعة ، وإن أدرك أقل من ركعة بنى على الظهر ، وهو مذهب أبي حنيفة .

ومن أصحابنا من أثبته ، وعده قولا رابعا ، ومنهم من أنكره ، وامتنع من تخريجه قولا رابعا ، فمن أثبته فوجهه : أن الجمعة لا تنعقد إلا بإمام ومأموم ، فلما جاز للمأموم أن يبني على الجمعة إذا أدرك مع الإمام ركعة ، جاز للإمام أن يبني على الجمعة إذا أدرك مع المأمومين ركعة .

ومن أنكر هذا القول وامتنع من تخريجه انفصل عن هذا ، وفرق بين حال الإمام والمأموم ، وقال : إنما جاز للمأموم أن يبني على الجمعة بإدراك ركعة مع الإمام لانعقاد الجمعة وحصولها للإمام ، فكان تابعا لمن كملت به ، ولم يجز للإمام أن يبني على الجمعة بإدراك ركعة مع المأمومين : لأنها تكمل بعدد يصح أن يكون لهم تابعا ، ولا صحة لهم فتصح له والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية