الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الصيد والذبائح

إملاء من كتاب أشهب ومن اختلاف أبي حنيفة وأهل المدينة

باب صفة الصائد من كلب وغيره وما يحل من الصيد وما يحرم

قال الشافعي - رحمه الله تعالى : كل معلم من كلب وفهد ونمر وغيرها من الوحش ، وكان إذا أشلي استشلى ، وإذا أخذ حبس ولم يأكل ، فإنه إذا فعل هذا مرة بعد مرة فهو معلم ، وإذا قتل فكل ما لم يأكل .

قال الماوردي : والأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة وإجماع الأمة .

قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم [ المائدة : 1 ] وفي قوله تعالى : أوفوا بالعقود فيه تأويلان :

أحدهما : أنها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم من بيع ، أو نكاح ، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر أو يمين وهذا قول ابن زيد .

والثاني : أنها العقود التي أخذها الله تعالى على عباده ، فيما أحله لهم وحرمه عليهم ، وأمرهم به ، ونهاهم عنه وهذا قول ابن عباس .

والعقد أوكد من العهد : لأن العقد ما كان بين اثنين ، والعهد قد ينفرد به الإنسان في حق الله وحق نفسه .

وفي بهيمة الأنعام تأويلان :

أحدهما : أنه أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت ، وهذا قول ابن عباس وابن عمر .

والثاني : أنها وحشي الأنعام من الظباء وبقر الوحش ، وجميع الصيد ، وهذا قول أبي صالح . وفي تسميتها " بهيمة " تأويلان :

أحدهما : لأنها أبهمت عن الفهم والتمييز .

والثاني : أنها أبهمت عن الأمر والنهي .

[ ص: 4 ] وفي قوله تعالى : إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم [ المائدة : 1 ] يريد به جميع الوحشي من صيد البر يحرم في الحرم ، والإحرام ، وفي قوله تعالى : وأنتم حرم تأويلان :

أحدهما : في الحرم ، وهو قول ابن عباس .

والثاني : في الإحرام ، وهو قول أبي صالح . إن الله يحكم ما يريد تأويلان :

أحدهما : يقضي ما يريد عفو وانتقام .

والثاني : يأمر بما يريد من تحليل وتحريم ، وهذه أعم آية في إباحة الأنعام والصيد في حالي تحليل وتحريم .

وقال الله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم [ المائدة : 96 ] يعني ما عاش فيه من سمكه وحيتانه وطعامه متاعا لكم وللسيارة فيه تأويلان :

أحدهما : مملوحة .

والثاني : طافية .

وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما [ المائدة : 96 ] فدل على إباحته لغير المحرم ، كما قال تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] وهذا وإن كان أمرا ، وهو بعد حظر فدل على الإباحة دون الوجوب .

وقال تعالى : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين [ المائدة : 4 ] وفي مراده بالطيبات تأويلان :

أحدهما : ما استطبتموه من اللحمان سوى ما خص بالتحريم .

والثاني : أنه أراد بالطيبات الحلال ، سماه طيبا ، وإن لم يكن مستلذا تشبيها بما يستلذ لأنه في الدين مستلذ .

وما علمتم من الجوارح مكلبين [ المائدة : 4 ] يعني : وصيد ما علمتم من الجوارح ، فأضمره : لدلالة المظهر عليه .

والجوارح : ما صيد به من سباع البهائم ، والطير ، وفي تسميتها بالجوارح تأويلان :

أحدهما : لأنها تجرح ما صادت في الغالب .

والثاني : لكسب أهلها بها من قولهم : " فلان جارحة أهله " أي : كاسبهم .

قال الله تعالى : ويعلم ما جرحتم بالنهار [ الأنعام : 60 ] أي كسبتم .

وفي قوله تعالى : مكلبين تأويلان :

[ ص: 5 ] أحدهما : أنها الكلاب وحدها ، ولا يحل صيد غيرها ، وهذا قول ابن عمر ، والضحاك ، والسدي .

والثاني : أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه الضراوة على الصيد ، ومعناه : مضرين عليه ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أنه التعليم ، وهو أن يمسك ، ولا يأكل .

ثم قال تعالى : تعلمونهن مما علمكم الله [ المائدة : 4 ] فيه تأويلان :

أحدهما : ترسلوهن على ما أحله الله لكم دون ما حرمه عليكم .

والثاني : تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي علمكم ، وهو تعليمه أن يستشلي إذا أشلي ، ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ .

ثم قال تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] فكان هذا نصا في الإباحة ، وفي سبب نزول هذه الآية قولان :

أحدهما : ما رواه أبو رافع أن جبريل عليه السلام أراد الدخول على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى كلبا ، فرجع ، وقال : إنا لا ندخل بيتا فيه كلب .

قال أبو رافع : " فأمرني بقتل الكلاب ، فقتلتها ، فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت حتى نزلت عليه هذه الآية "
.

والثاني : أن زيد الخيل وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : فينا رجلان يقال لأحدهما : دريع ، والآخر يكنى : أبا دجانة ، ولهما أكلب خمسة تصيد الظباء فما ترى في صيدها ؟ .

وحكى هشام عن ابن عباس أن أسماء هذه الكلاب الخمسة التي لدريع وأبي دجانة : المختلس ، وغلاب ، وسهلب ، والغنيم ، والمتعاطى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وأما السنة فروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط .

وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل ما ردت عليك فرسك وكلبك .

وروى عامر الشعبي عن عدي بن أبي حاتم قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إنا قوم نصيد بهذه الكلاب ، فقال : إذا أرسلت كلابك المعلمة ، وذكرت اسم الله ، فكل مما أمسكن عليك ، وإن قتل إلا أن يأكل الكلب ، فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ، وإن خالطها كلاب غيرها ، فلا تأكل .

[ ص: 6 ] قال : وسألته عن صيد البازي ، فقال : ما أمسك عليك ، فكل . قال : وسألته عن الصيد إذا رميته ، فقال : إذا رميت سهمك ، فاذكر اسم الله ، فإن وجدته قد قتلته ، فكله إلا أن تجده قد وقع في ماء ، فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك .

وقال : وسألته عن سهم المعراض ، فقال : ما أصاب بحده فكل ، وما أصاب بعرضه ، فهو وقيز
. وهذا الحديث يستوعب إباحة الصيد بجميع آلته .

التالي السابق


الخدمات العلمية