الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " فإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه " وذكر الشعبي عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : فإن أكل فلا تأكل . قال : وإذا جمع البازي أو الصقر أو العقاب أو غيرها مما يصيد أن يدعى فيجيب ، ويشلى فيطير ، ويأخذ فيحبس مرة بعد مرة فهو معلم ، فإن قتل فكل ، وإذا أكل ففي القياس أنه كالكلب . قال المزني - رحمه الله - : ليس البازي كالكلب : لأن البازي وصفه إنما [ ص: 8 ] يعلم بالطعم وبه يأخذ الصيد والكلب يؤدب على ترك الطعم والكلب يضرب أدبا ولا يمكن ذلك في الطير فهما مختلفان ، فيؤكل ما قتل البازي وإن أكل ، ولا يؤكل ما قتل الكلب إذا أكل لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

قال الماوردي : إذا أرسل الجارح المعلم على صيد ، فقتله ، ولم يأكل منه حل أكله : لقول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم .

وإن أكل الجارح من الصيد الذي قتله ، ففي إباحة أكله قولان سواء كان من كواسب البهائم أو كواسر الطير :

أحدهما : وهو قوله في القديم - يحل أكله .

وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي .

ومن الفقهاء مالك ، وأبو ثور ، وداود .

والقول الثاني : وبه قال في الجديد لا يحل أكله .

وبه قال من الصحابة عبد الله بن عباس ، وأبو هريرة .

ومن الفقهاء أهل العراق .

وقال أبو حنيفة ، والمزني وهو مذهب الشعبي والنخعي أن ما كان من كواسب البهائم لم يحل أكله ، وإن كان من كواسر الطير يعلم بالأكل ولا فرق بينهما عند الشافعي على القولين : لأمرين :

أحدهما : أن البازي يعلم بالأكل في مبادئ التعليم ، وبالامتناع من الأكل عند استكماله ، ولو كان تعليمه بالأكل في الحالين ، لما صح تعليمه إذا امتنع من الأكل ، ولكان أكله منه شرطا في إرادة أكله ، وهذا مدفوع .

والثاني : أنه يعلم بالأكل من يد معلمه ، ولا يعلم من أكل ما صاده .

وإذا لم يكن بينهما فرق على القولين ، فإن قيل بقوله في القديم أنه يحل أن يؤكل ما أكل منه ، فدليله حديث أبي ثعلبة الخشني .

روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبو ثعلبة ، فقال : يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن كانت الكلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك . قال : ذكي ، وغير ذكي ؟ قال : ذكي وغير ذكي . قال : وإن أكل منه ؟ فقال : وإن أكل منه .

وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا [ ص: 9 ] أرسلت كلبك المكلب ، وذكرت اسم الله عليه فكل ، وإن أكل منه . فهذا نص .

ولأن ما حل أكله بفوات نفسه لم يحرم بحدوث أكله كالمذكى : ولأن ما حل من صيده إذا لم يأكل منه حل ، وإن أكل منه ، كما لو تركه بعد صيده ، ثم عاد ، فأكل منه : ولأنه لو أكل من غير صيده ، وأكل غيره من صيده لم يحرم واحد منهما ، فدل على أن الأكل لا يوجب التحريم .

وإن قيل بقوله في الجديد : إن أكل ما أكل منه حرم ، فدليله قول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم وما أكل منه ، فقد أمسكه على نفسه ، لا على مرسله ، ويدل عليه حديث عدي بن حاتم ، وهو أثبت من حديث أبي ثعلبة الخشني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه فكل ، وإن قتل إلا أن يأكل منه ، فلا تأكل . وهذا نص .

ولأن من شرط التعليم أن لا يأكل منه ، وإذا أكل بان أنه غير معلم ، فحرم : ولأن أكله وإن احتمل أمرين :

أحدهما : نسيان التعليم ، فمحرم .

والثاني : لغلبة الجوع ، فلا يحرم .

وجب عند تعارضهما أن يعاد إلى أصله في الحظر والتحريم كما لو اختلط مذكى بميتة لم يحل الاجتهاد فيه : تغليبا للتحريم : ولأن الصيد الواحد لا يتبعض حكمه ، فلما كان ما أكله قد أمسكه على نفسه ، كذلك باقيه ، وما أمسكه على نفسه حرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية