الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " وإذا رمى أو أرسل كلبه على الصيد فوجده قتيلا فالخبر عن ابن عباس ، والقياس أن لا يأكله لأنه يمكن أن يكون قتله غيره ، وقال ابن عباس : كل ما أصميت ودع ما أنميت وما أصميت وأنت تراه وما أنميت ما غاب عنك فقتله إلا أن يبلغ منه مبلغ الذبح ، فلا يضره ما حدث بعده " .

قال الماوردي : وصورتها أن يرمي صيدا بسهم أو يرسل عليه كلبا ، فيغيب الصيد عنه ، ثم يجده ميتا ، فهذا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون السهم أو الكلب قبل مغيب الصيد قد بلغ منه مبلغ الذبح ، وهو يراه ثم تحامل الصيد بضعف الحياة حتى غاب عنه ، ثم وجده ميتا ، فهذا مأكول : لأنه قد صار مذكى عند مشاهدته ، فلم يحرم ما حدث بعده .

والقسم الثاني : أن يغيب الصيد قبل أن يقع فيه السهم ، وقبل أن يجرحه الكلب ، ثم يجده بعد غيبته مجروحا ميتا ، فهو حرام لا يؤكل سواء كان السهم واقعا فيه ، والكلب واقعا عليه ، أو لا : لأنه قد يجوز أن يشارك عقر الكلب في قتله جراحة سبع أو لسعة أفعى ، ويغرب فيه سهم إنسان آخر ، فلما احتمل هذا وغيره وجب أن يكون محرما : لأنه على أصل الحظر .

والقسم الثالث : أن يقع فيه السهم ويجرحه الكلب ، وهو يراه ، ويغيب عنه ، وهو قوي الحياة ، ثم يجده ميتا ، فهي مسألة الكتاب .

والذي نص عليه الشافعي ، ونقله المزني أنه لا يؤكل للخبر عن ابن عباس ، والقياس .

وقال في كتاب " الأم " : لا يؤكل إلا أن يكون قد ورد فيه خبر ، فيسقط حكما خالفه ، ولا يقوم له رأي ، ولا قياس ، وقد ورد فيه خبر ، وهو ما روي أن أبا ثعلبة الخشني قال : يا رسول الله إني أرمي الصيد ، وأجده ميتا ، فقال : كله ما لم تر فيه أثر غيرك وروي أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله إني أرمي الصيد ، فأقتفي أثره اليوم والثلاثة ، وأجده ميتا ، فقال : كله ما لم ينتن ، وروي : ما لم يصل : أي لم يتغير ، وهذان الخبران قد وردا من طريق ضعيف ، فإن لم يصح واحد منهما ، والحكم فيه ما نص عليه أنه غير مأكول ، وإن صح هذان الخبران أو أحدهما ، فهو مأكول ، واختلف أصحابنا في صحته ، فذهب أكثر البصريين إلى أنه ليس بصحيح ، ولا ثابت ، وأن المسألة على قول واحد أنه غير مأكول .

[ ص: 16 ] وذهب أبو العباس بن سريج وأكثر البغداديين إلى أنه قد صح ، وثبت ، وأن في إباحة أكله قولين :

أحدهما : وهو منصوص عليه أنه غير مأكول .

والثاني : وهو الموقوف على صحته الخبر أنه مأكول .

وقال أبو حنيفة : إن كان مقيما على اتباعه وطلبه حتى وجده ميتا أكل ، وإن تركه وتشاغل عنه ، ثم وجده ميتا لم يؤكل : لأنه ما دام على طلبه يصل إلى ذكاته مع القدرة ، ولا يصل إليها مع الترك .

وقال مالك : إن وجده في يومه أكل ، وإن وجده بعد انقضاء يومه لم يؤكل ، وفيما نكره من توجيه القولين دليل عليهما في مخالفة القولين ، فإذا قلنا بالأول إنه غير مأكول ، وهو الأظهر فوجهه ما رواه عكرمة أن رجلا أتى ابن عباس ، فقال له : إني أرمي ، فأصمي وأنمي ، فقال له ابن عباس : " كل ما أصميت ، ودع ما أنميت " يريد بما أصمى ما قتله ، وهو يراه ، وبما أنمى ما غاب عنه ، فلم يره حتى نمى إليه ، خبر موته ، ولأنه لما احتمل مع الغيبة أن يكون موته من عقره ، فيحل ، وأن يكون بغيره من الأسباب ، فيحرم وجب أن يغلب حكم التحريم .

وإذا قلنا في الثاني : إنه مأكول ، فوجهته مع الخبرين ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بالروحاء فإذا هو بحمار وحشي عقير فيه سهم قد مات ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعوه حتى يأتي صاحبه ، فجاء رجل من فهر ، فقال : هي رميتي يا رسول الله ، فكلوه ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق ، وهم محرمون ، فدل على أن ما غاب لم يحرم : ولأن حكم عقره بالسهم ، والكلب ثابت ، فلم يجز العدول عنه : بتجويز غيره ، كما لو جرح حيوانا فمات قبل اندمال جرحه ، كان ضامنا لقيمته ، وإن جاز أن يموت بغيره ، وكذلك لو جرح إنسانا فمات كان مأخوذا بالقود ، وإن جاز أن يحدث بعد جرحه سبب يموت به إثباتا لحكم النفي . وإسقاطا لحكم الشك ، كذلك حكم الصيد يجب أن يكون منسوبا إلى عقره المتحقق دون ما يطرأ من شك يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية