الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " وإذا أدرك الصيد ولم يبلغ سلاحه أو معلمه ما يبلغ الذبح فأمكنه أن يذبحه فلم يفعل فلا يأكل ، كان معه ما يذبح به أو لم يكن ، فإن لم يمكنك أن تذبحه ومعك ما تذكيه به ولم تفرط حتى مات فكل " .

قال الماوردي : وهذا كما قال .

إذا رمى صيدا ، فجرحه أو أرسل عليه كلبه ، فعقره ، ومات من غير ذكاته ، فهذا على ثلاثة أقسام :

[ ص: 17 ] أحدها : أن يكون العقر قد وجاه ، وبقيت فيه حياة ، كجرحه المذبوح ، وذلك بأن يكون السهم قد فرق في قلبه أو يكون الكلب قد قطع حلقومه أو أخرج حشوته ، فهذا حلال مأكول ، ولا يلزمه ذبحه ، وإن قدر عليه لفوات نفسه بذكاة مثله أو لم يكن لبقاء الحركة تأثير في الحياة كما لو شق سبع بطن شاة ، فذبحت لم تحل لفوات الحياة بغير الذبح ، وإن كانت الحركة باقية .

والقسم الثاني : أن يكون العقر قد أثبته ، ولم يوجه ، ومات قبل وصول الرامي أو المرسل إليه ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يفوته إدراك حياته ، تأخره وإبطاؤه ، فهذا حرام غير مأكول : لأنه قد كان في حكم المقدور على ذكاته لو بادر إليه .

والضرب الثاني : أن يفوته إدراك حياته مع مبادرته إليه ، فهذا حلال مأكول : لتعذر القدرة على ذكاته ، واختلف أصحابنا في ما يعتبر في مبادرته إليه على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : أنه يعتبر صفة مشي مثله على مألوف سكينته ، ولا يعتبر فيه السعي كما لا يعتبر في إدراك الجمعة .

والوجه الثاني : أنه يعتبر فيه السعي المعهود في طلب الصيد : لأنه مخالف لسكينة المشي في عرف أهل ، فعلى هذين الوجهين ، لو كان يدركه بالسعي فمشى إليه حتى مات كان مأكولا على الوجه الأول ، وغير مأكول على الوجه الثاني .

والقسم الثالث : أن يكون العقر قد أثبته ، وأدركه الرامي حيا ، فلم يذبحه حتى مات ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون قادرا على ذكاته ، فأخرها حتى مات ، فهو حرام لا يؤكل : لأن المقدور عليه لا يحل بغير الذكاة .

والضرب الثاني : أن لا يقدر على ذكاته حتى يموت فهذا على ضربين :

أحدهما : أن لا يقدر عليه لقصور زمان حياته ، فهذا حلال مأكول .

وقال أبو حنيفة : وهو غير مأكول : لأنه قد صار بإدراك حياته ، كالمقدور على ذكاته ، وهذا خطأ : لأن العجز عنها بقصور الزمان ، كالعجز عنها لفواته ، ألا ترى أن العجز عن استعمال الماء مع وجوده كالعجز عنه مع عدمه في إباحة التيمم كذلك وجب أن يكون العجز عن الذكاة مع إدراكها كالعجز عنه مع فواتها في إباحة الأكل .

والضرب الثاني : أن لا يقدر على ذكاته : لتعذر الآلة ، فلا يجد سكينا أو وجدها وهي كالة لا تقطع ، فهو حرام غير مأكول : لأنه قد كان قادرا على ذكاته لو لم يفرط في آلته .

[ ص: 18 ] فلو كانت معه سكين ، فضاعت أو غصبه عليها غاصب حتى مات لم يأكل ، ولو حال بينه وبين الصيد سبع ، فلم يصل إليه حتى مات أكل .

والفرق بين غصب السكين ، وبين منع السبع أن غصب السكين وضياعها عائد إليه ، ومنع السبع عائد إلى الصيد ، فلو كانت السكين في قراب قد أمسك عليها فتعسر عليه خروجها حتى مات ، قال أبو علي بن أبي هريرة : يكون مأكولا : لأن السكين في الأغلب تصان في قرابها إلى وقت الحاجة إليها ، فلم يكن مفرطا ، وهذا عندي معتبر بحال القراب ، فإن كان على المعهود في الإمساك لما اشتمل عليه كان مأكولا ، وإن خرج عن المعهود في الضيق والشدة كان غير مأكول .

ولو أخرج السكين ، وتشاغل بإحدادها حتى مات ، فهو غير مأكول ولو تشاغل بطلب موضع الذبح حتى مات فهو مأكول : لأنه لا يجد من طلب موضع الذبح بدا ، ويجد من إحداد السكين بدا .

فلو شك في الصيد بعد موته : هل أدرك ذكاته ، فيحل له كالمجروح إذا غاب عنه ، فيكون على قولين :

أحدهما : يحرم ، وهو الأظهر هناك .

والثاني : يحل ، وهو الأصح هاهنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية