الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " ولا يؤكل ما قتله الرمي إلا ما خرق بدقته أو قطع بحده فأما ما جرح بثقله فهو وقيذة " .

قال الماوردي : أما الذكاة في اللغة ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها التطيب من قولهم : مسك ذكي إذا كان طيب الرائحة ، لكنها في الشرع تطييب الذبيحة بالإباحة .

والوجه الثاني : أنها القطع لكنها في الشرع قطع على صفة مبيحة ، فصارت في الشرع قطعا خاصا ، وفي اللغة قطعا عاما .

والوجه الثالث : وإليه أشار الشافعي ، أن الذكاة القتل : لأنها لا تستعمل إلا في النفوس ، لكنها في الشرع قتل في محل مخصوص ، فصارت أخص منها في اللغة .

قال الشافعي : وجميع ما قال الله تعالى : إلا ما ذكيتم [ المائدة : 3 ] : إلا ما قتلتم ، ولكن كان مجوزا أن يكون ببعض القتل دون بعض ، فلما قال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [ البقرة : 67 ] دل على أن الذكاة المأمور بها الذبح دون غيره ، وكان النحر في معنى الذبح .

فإذا تقرر هذا ، فالذكاة على ضربين في مقدور عليه ، وممتنع .

فإن كانت في مقدور عليه لم تكن إلا ذبحا في الحلق أو نحرا في اللبة بما يقطع بحده دون ما يخرق بدقه ، وسواء كان بحديد أو بغيره من المحدد إذا مار في اللحم مور الحديد من ليط القصب ، وما حدد من الزجاج ، والحجر ، والخشب : لأن المقصود منها ما قطع بحد : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكل .

[ ص: 50 ] وروي أن عدي بن حاتم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا نجد الصيد ولا نجد ما نذكي به إلا الظرار وشقة العصا ، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : أمر الدم بما شئت .

قال أبو عبيد : الظرار حجارة محددة .

وقوله : أمر الدم بما شئت أي سله بما شئت .

فأما ما قطع من ذلك بشدة اعتماد المذكي ، وقوة ثقله ، فلا يؤكل ومثله الحديد لو كان كالا لا يقطع بحده ، ويقطع بشدة الاعتماد ، وقوة الذابح لم يؤكل لأنه يصير المنهر للدم هو الذابح دون الآلة .

وأما الممتنع فكل موضع من جسده محل لذكاته مما قطع بحده كالسيف ، والسكين أو خرق ، وثقب بدقته كالسهم والحربة ، فمار في اللحم ، ودخل ، سواء كان حديدا أو ما قام مقامه من القصب ، والخشب ، والمحدد ، والحجارة المحددة .

فأما ما قطع بثقله أو بقوة الرامي كالخشب الأصم ، والحجر الصلد ، فإنه وقيذ لا يؤكل لقول الله تعالى : والموقوذة والمتردية [ المائدة : 13 ] والموقوذة : هي المقتولة ضربا ، والمتردية : هي الواقعة من شاهق .

وروى عامر الشعبي عن عدي بن حاتم ، قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض ، فقال : ما أصاب بحده فكل ، وما أصاب بعرضه ، فهو وقيذ .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الجلاهق وهو قوس البندق : لأنه يقتل الصيد بقوة راميه ، وليس يقتله بحده كالسهام ، فأباح السهم ، ونهى عن البندق .

فإن قيل : فقد روى الأعمش عن إبراهيم ، عن عدي بن حاتم أنه قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البندق ، فقال : إن خرقت فكل ، وإن لم تخرق فلا تأكل .

قيل : هذا الحديث ليس بثابت ، ولا أصل له ، فإن سفيان قال : سألت الأعمش عن حديث البندق يعني هذا الحديث المروي عنه أنه ليس من حديثك ، فقال كيف أصنع بهؤلاء أصحاب الحديث يقرءون من أصل ما ليس فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية