الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 51 ] مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " وما نالته الجوارح فقتلته ولم تدمه احتمل معنيين : أحدهما أن يؤكل حتى يجرح قال الله تعالى : من الجوارح والآخر أنه حل قال المزني الأول أولاهما به قياسا على رامي الصيد أو ضاربه لا يؤكل إلا أن يجرحه " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل أرسل كلبه أو غيره من الجوارح على صيد ، فمات الصيد بإرساله عليه ، فلا يخلو حال موته من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يتعبه الكلب بالسعي عليه حتى يسقط الصيد ميتا بالإعياء من غير أن يجرحه الكلب ، فهذا ميتة لا يؤكل : لأنه لم يصل إليه فعل يكون تذكية .

والحال الثانية : أن يناله الكلب ، فيعقره ، فيموت من عقره وجراحته ، فيحل أكله سواء جرحه بأنيابه أو بمخالبه في مقتل أو غير مقتل من رأس أو ذنب : لقول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] .

فاختلف أصحابنا في موضع عقر الكلب ، هل يحل أكله أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : لا يحل أكله سواء كان قد غسله أو لم يغسله ، ويأكل ما عداه من جسده : لأن لعاب الكلب ونجاسة أنيابه تسري في محله فلا يصل إليه الغسل .

والوجه الثاني : أنه يحل أكله ، لأنه من جملة حكم بإباحتها من غير استثناء ، فعلى هذا هل يجب غسله قبل أكله أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يجب غسله قياسا على محل ولوغه ، ولا يحل أكله قبل الغسل .

والوجه الثاني : لا يجب غسله : للحوق المشقة فيه ، فصار عفوا كسائر ما يشتق التحرز منه من جميع الأنجاس .

والحال الثالثة : أن يكون موت الصيد بصدمة الكلب أو بضغطته أو بقوة إمساكه من غير أن يعقره بجرح من ناب أو مخلب ، ففي إباحة أكله قولان :

أحدهما : وهو اختيار المزني ، ورواه أبو يوسف ، ومحمد ، وزفر عن أبي حنيفة أنه حرام لا يؤكل .

والقول الثاني : ورواه الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة أنه حلال يؤكل .

فدليل القول الأول في تحريمه قوله تعالى : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ المائدة : 4 ] فجعل الجرح نعتا ، فصار في الإباحة شرطا .

وروى رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا فدل على أن ما لم ينهر لا يؤكل : ولأن قتل الصيد قد أبيح بآلة وبجوارح ، فلما لم يحل [ ص: 52 ] صيد الآلة إلا بعقره وجب أن لا يحل صيد الجوارح إلا بعقره : لأنه أحد النوعين ، فكان العقر شرطا في الحالين .

ودليل القول الثاني في إباحته قول الله تعالى : وما علمتم من الجوارح مكلبين يريد به الجوارح الكواسب كما قال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات [ الجاثية : 21 ] أي اكتسبوا ثم قال : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] فكان على عمومه في كل إمساك عقر أو لم يعقر ، ولأن شروط الذكاة معتبرة بحال القدرة والعجز ، فتجب مع القدرة في محلها في الحلق واللبة ما يسقط مع العجز ، كذلك العقر لا يشق اعتباره في الآلة ، فكان شرطا وشق اعتباره في الجارح فلم يكن عقره شرطا : ولأن ما كان شرطا في تعليم الجارح ، كان شرطا في الاستباحة ، كالإمساك ، وما لم يكن شرطا في التعليم لم يكن شرطا في الاستباحة ، كالأكل ، فلما لم يكن العقر شرطا في تعليمه لم يكن شرطا في استباحة صيده : ولأن عقره من دواعي الأكل المؤثر في الحظر ، فكان ترك عقره أصح في التعليم ، وأبعد من الحظر ، فكان أحق بالإباحة من العقر .

التالي السابق


الخدمات العلمية