الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " ولو شق السبع بطن شاة فوصل إلى معاها ما يستيقن أنها لم تذك ماتت فذكيت فلا بأس بأكلها لقول الله عز وجل : والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم والذكاة جائزة بالقرآن قال المزني رحمه الله : وأعرف من قوله أنها لا تؤكل إذا بلغ بها ما لا بقاء لحياتها إلا حياة المذكي ، وهو قول المدنيين ، وهو عندي أقيس لأني وجدت الشاة تموت عن ذكاة فتحل وعن عقر فتحرم ، فلما وجدت الذي أوجب الذبح موتها وتحليلها لا يبدلها أكل السبع له ولا يرد بها ، كان ذلك في القياس إذا أوجب السبع موتها وتحريمها لم يبدلها الذبح لها ، ولا أعلم خلافا أن سبعا لو قطع ما يقطع المذكي من أسفل حلقها أو أعلاه ثم ذبحت من حيث لم يقطع السبع من حلقها أنها ميتة ولو سبق الذابح ثم قطع السبع حيث لم يقطع الذابح من حلقها أنها زكية ، وفي هذا على ما قلت دليل ، وقد قال الشافعي : ولو أدرك الصيد ولم يبلغ سلاحه أو معلمه ما يبلغ الذابح فأمكنه أن يذبحه فلم يفعل فلا يأكل " قالالمزني [ ص: 58 ] رحمه الله : وفي هذا دليل أنه لو بلغ ما يبلغ الذابح أكل قال المزني رحمه الله : ودليل آخر من قوله في كتاب الديات : لو قطع حلقوم رجل ومريئه أو قطع حشوته فأبانها من جوفه أو صيره في حال المذبوح ، ثم ضرب آخر عنقه ، فالأول قاتل دون الآخر قال المزني رحمه الله : فهذه أدلة على ما وصفت من قوله الذي هو أصح في القياس من قوله الآخر . بالله التوفيق " .

قال الماوردي : وجملته أنه إذا افترس سبع أو ذئب شاة أو بعيرا ثم أقلع وفي الشاة حياة ، فذبحت لم تخل حياتها من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون جرح الافتراس يجوز أن يبرأ ، والحياة التي فيها يجوز أن تبقى ، فذبحها على هذه الحال ، فإن ذكاته تبيح أكلها ، وهو متفق عليه لقول الله تعالى : وما أكل السبع إلا ما ذكيتم [ المائدة : 3 ] .

والحال الثانية : أن يكون الجرح لا يجوز أن تبقى كقطع رأسها ، أو إخراج حشوتها ، ولم يبق فيها : إلا حركة المذبوح فلا يؤثر ذبحها ، ولا يحل أكلها : لخروج أكثر الروح بجرح السبع دون الذبح ، وهذا متفق عليه .

والحال الثالثة : أن يكون جرح السبع لا يجوز أن يبرأ والحياة معه قليلة البقاء ، مثل أن يقطع منها ما لا يحيا معه ، كالمعى ، لكن الروح فيها باقية ، تعيش بها ساعة أو بعض يوم ، فيكون ذبحها على هذه الحال ذكاة يحل بها أكلها كالحالة الأولى ، وهذا مما لم يختلف فيه قول الشافعي ، وإنما أشكل على المزني فجمع بين الحالتين ، وتصور أن ذلك على قولين وليس كما توهم ، وإنما هو على اختلاف حالين .

وقد روى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شاة أخذها الذئب فأدركت ، وبها حياة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكلها .

وقد جرح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جرحين قطعا معاه ، فسقاه الطبيب لبنا خرج منه ، فقال له : اعهد ، فإنك ميت فعهد ووصى ، وأمر ونهى ، فأجرى المسلمون عليه حكم الحياة في جميع ما كان من قوله وفعله ، فدل على أن ما انتهى إلى حاله من الحيوان كان في حكم الحياة ، وإباحة الذكاة فلو وقع الشك في ذبح الشاة هل كان في حال حظرها أو إباحتها ، ففي صحة ذكاتها وجهان :

أحدهما : تكون ذكية تؤكل : لأن الأصل بقاء الحياة فيها إلى وقت الذبح .

والوجه الثاني : أنها محرمة لا تؤكل ، لأن الأصل في فوات النفس الحظر حتى يعلم يقين الإباحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية